بحثًا عن بديل.. الطريق الرابع - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 2:14 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بحثًا عن بديل.. الطريق الرابع

نشر فى : الأربعاء 15 ديسمبر 2010 - 11:41 ص | آخر تحديث : الأربعاء 15 ديسمبر 2010 - 11:41 ص

 فى المقال المنشور فى أول الشهر الحالى، ناقشنا مفهوم الطريق الثالث، وأوضحنا أنه نشأ كمحاولة إما لتخفيف حدة بطش الطريق الأول فى صورته الليبرالية الجديدة، التى قادتها كل من دولتى قمة النظام الرأسمالى، الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

ففى الأولى جرت محاولة للتراجع بعض الشىء عما أطلق عليه الريجانية مع الإبقاء على فلسفتها الأساسية وهى انكماش دور الدولة فى مواجهة القطاع الخاص الذى تولت قيادته عابرات القوميات، مع إعادة ترتيب الأنشطة الاجتماعية بحيث يشارك العمال بقدر أكبر فى تحمل أعبائها.

وفى الثانية جرت محاولة التنصل من الثاتشرية من جانب حزب العمال، الذى كان يرفع راية اشتراكية لا تصل إلى حد النظام الشيوعى الذى ساد فى أوروبا الشرقية، مكتفية بدور قوى للدولة فى كل من النظام الاقتصادى والفعاليات الاجتماعية، فجاءت المحاولة تراجعا عن الاشتراكية التقليدية كبديل يعالج مثالب الليبرالية الجيدة ويسترد به حزب العمال الحكم من المحافظين.

وخلصنا من استعراض معالم ما أطلق عليه الطريق الثالث أنه جاء كمحاولة لمعالجة العلاقة بين السوق والدولة على نحو يؤدى إلى تطويع شبكة العلاقات الاجتماعية لتتكيف مع جموح العولمة. وانتهينا إلى أن القضية فى جوهرها هى معالجة العلاقة بين الفرد والمجتمع، أخذا فى الاعتبار أن الفرد ذاته هو منظومة شبكية تتداخل مع المجتمع فى أكثر من مجال.

وحتى ندرك أبعاد هذه النظرة البديلة علينا أن نتأمل العلاقة بين البعدين الاقتصادى وقوامه فى منظور الرأسمالية هو الفرد، والاجتماعى وقوامه هو المجتمع وقاعدته الثقافية. ويعنى هذا ترك المجال السياسى للدولة، مع تكليفها برعاية كل ما من شأنه الحفاظ على حسن العلاقة بين الفرد والمجتمع.

فالقضية بالنسبة للنظم التقليدية، سواء الرأسمالية ومنتهاها الليبرالية الجديدة، أو الاشتراكية ومنتهاها الماركسية اللينينية، هى بناء الحياة الإنسانية على أساس ما يسمى «الكفاءة الاقتصادية». ففى النشاط الاقتصادى تنصب القرارات على تخصيص الموارد للاستخدامات المختلفة، التى تشبع حاجات الإنسان، على نحو يعظم العائد منها، بحيث أن أى تغيير عن التخصيص الأمثل يؤدى إلى انتقاص من ذلك الإشباع.

ولما كان الإشباع هو شعور حسى يتفاوت من شخص لآخر يتعذر قياسه وإيجاد مجموعة لدى جماعة من الأشخاص، فإن الأمر يتطلب إيجاد مقياس قابل للمقارنة بين تقديراته الذاتية، وتلعب النقود هذا الدور. واستدعى الأمر وجود أسواق للسلع والخدمات، التى تشبع الحاجات المختلفة ويجرى تبادلها مقابل النقود.

وتقوم السوق ببث المؤشرات، التى ترشد كل فرد إلى المقادير التى لا يرى أن أى تغيير فيها يزيد مما يمكنه الحصول على إشباع منها، سواء باستهلاكها إذا كان مشتريا (جانب الطلب) أو بالعائد النقدى الذى يغريه على التنازل عنها (جانب العرض). وأى إخلال بمصداقية السوق يعود بالضرر على هذا الطرف أو ذاك، حين يكتشف أنها لم تعبر بصدق عن رغباته.

غير أن هذا لا يعنى أن يحصل كل متعامل فى السوق على أفضل ما كان يتمناه، بل قد تؤدى حركة السوق إلى عدم تمكن البعض من الحصول على كل ضروريات الحياة، بينما يجد آخرون أن لديهم القدرة على استهلاك ما يدخل تحت عنوان البذخ والإسراف، مما يدل على غياب العدالة الاجتماعية، وهو أمر لا يمكن أن تعبر عنه السوق.

بينما يشارك الجميع فى اتخاذ القرارات المتعلقة بالاستهلاك، فإن قلة هى التى تتحكم فى قرارات الإنتاج، وتحدد بالتالى ما يتاح للقوى العاملة من فرص للتوظف وما تحصل عليه من أجور، وهو ما يتم فى أسواق العمل، التى تنعكس فيها الآية، حيث يشكل العمال وهم جمهرة المستهلكين، جانب العرض، بينما يتولى المنتجون القائمون بعرض المنتجات، جانب الطلب على العمل. وإذا صح أن المنتجين يتخذون قراراتهم فى الحالين على النحو الأفضل من وجهة نظرهم، مسترشدين بحركة الأسواق، فإن هذه القرارات لا يحقق بالضرورة الوضع الأفضل للغالبية، وهى القوى العاملة.

ويقوم الفكر الاشتراكى على إغلاق الحلقة بنقل القرارات الإنتاجية إلى دولة تمثل العاملين تراعى توفير التوظف للجميع وتحقيق الإشباع المناسب للجميع. ويتبع هذا التحكم فى جانبى العرض والطلب، وهو ما يفقد السوق القدرة على الإفصاح عن مواطن الخلل فى كل منهما. ويرى الفكر الرأسمالى أن هذا يؤدى لغياب الكفاءة الاقتصادية لافتقاد المؤشر الخارجى الذى يكسب تخصيص الموارد وضعه الأمثل.

وإذا كانت الدول المتقدمة قد استطاعت أن تنظم قواعد عمل الأسواق، ووفرت نظم المعلومات، التى لا بد منها كى تؤدى الأسواق دورها، ووجدت رغم ذلك ضرورة للبحث عن طريق ثالث ما زالت تدرس تطويره للتخلص مما أصابها من أزمات، فإن الدول النامية أضعف من أن تتحمل الوصفات، التى أفتى بها توافق واشنطن، وأن تساير القواعد التى فرضتها عاديات العولمة، الأمر الذى دفع إلى المناداة بضرورة تلافى الأضرار بما يسمى تحقيق «العدالة الاجتماعية»، فبدأ الأمر كما لو أنه لا مناص من الخضوع لشروط الكفاءة الاقتصادية مع معالجتها بأدوات عدالة اجتماعية دون مساس بقواعد الكفاءة، وهو ما يلقى على الدولة وعلى المجتمع المدنى ــ إن توفرت لديه القدرة ــ أعباء لا يكفى ما يطلق عليه حوكمة الشركات مساندتها.

إن وجه المغالطة فى تلك الدعوى أنه بينما اعتبر البعد الاقتصادى أمرا موضوعيا، وأكسب مفهوم الكفاءة الاقتصادية قوة تجعل تحقيقها لازما ومقننا، فقد برّئ ذلك البعد من مسئولية العدالة، وتركت إلى الجانب الاجتماعى المتهم بغياب الموضوعية حث تغلب عليه العناصر التقديرية. ولو صح أن الجانب الاقتصادى يرجع الكفاءة إلى حسن تخصيص الموارد، فماذا عن عنصر العمل وهو المورد الذى لا غنى عنه فى أى نشاط يتصف ناتجه بالندرة المنشئة للقيمة الاقتصادية؟ إن الصراع القائم فى الولايات المتحدة، والذى يكاد يطيح بأوباما مرجعه أن مجمل السياسات التصحيحية التى عالج بها كبوة الاقتصاد الأمريكى، تركت البطالة تستفحل. والجهود التى تبذلها الدول الأوروبية المأزومة تقوم على التقشف الذى يعصف بالأجور الحقيقية للعمال. إن الجانب الاقتصادى لا يسلم إلا بالجمع بين الكفاءة والعدالة معا، لأن العدالة الاقتصادية هى التى ترد للمورد الإنسانى اعتباره وتجعل لكفاءة تخصيص الموارد الأخرى مغزى للإنسان.

وإذا كان الأمر كذلك فإن لنا أن نتحدث عن كفاءة وعدالة اجتماعيين ليس على وجه تصحيح نواقص البعد الاقتصادى، بل من منطلق إنسانى شامل يؤهل الإنسان ليكون معطاء لمجتمعه ومستفيدا من عضويته فيه. إن الكفاءة الاجتماعية تعنى أن تطور ثقافة المجتمع على نحو يهيئ لكل فرد الوضع اللائق به، وهو ما يخلق التراضى والتوافق بين المواطنين، سواء فى القطر الواحد أو التجمع الإقليمى المتكامل. أما العدالة الاجتماعية فهى عملية تزويد كل فرد بمقومات التطوير الذاتى، الذى يمكنه من أداء دوره فى المجتمع، بما فى ذلك الدور الاقتصادى، حتى يسهم فى بناء الكفاءة الاجتماعية. ويتحدد دور كل من الفرد والدولة والمجتمع وفقا لهذه المنظومة الخماسية، وهو ما سنبينه فى مقال قادم.

الطريق الدائرى: إذا كان الحزب الوطنى قد تفضل فهيأ النجاح لأفراد من أحزاب مصطنعة فى دوائر، حتى على حساب أعضائه ممن لم يحوزوا رضاه، فليتم جميله بتزويد ناخبى تلك الدوائر بالسيرة الذاتية لمن قرر تعيينهم بالانتخاب، أو على الأقل بأسمائهم وعناوينهم على سبيل التعارف.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات