ثَورَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 3:20 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثَورَة

نشر فى : السبت 16 مارس 2019 - 4:40 ص | آخر تحديث : السبت 16 مارس 2019 - 4:40 ص

في التاريخ ثوراتٌ عدة؛ حرَّكت الراكدَ على مستوى الجُموع، وبدَّلت بعض المرَّات واقعَها، وفي نفوسِ البشر ثورات مُصغَّرة، تتولَّد بين الحين والآخر؛ فتجتاح المشاعرَ وتزلزها. الأمران مُتشابهان، يؤكد كلٌّ مِنهما رفضًا، ويُعلِن نفادَ الصبر، ونضوبَ القُدرة على الاحتمال.
***

تذكر مَعاجمُ اللغة العربية عن الثَّورة، إنها أَهْيَجَ ما يكونُ من الغضب، وثَورُ الغَضَب هو حِدَّته وقوَّته وعنفوانه، وثارَتْ نَفسُه أي؛ جاشَت وفارَت. لا يقتصر الفعل "ثارَ" على البشر وحدهم؛ فيُقال ثَارَ الغُبار بمعنى ظَهَر وسَطَع، وثَارَ الماءُ أَي اندفق بقوّة وشدّة.
***

إذا غَضَب البحر؛ انفتح جوفُه ليلفظَ ما في الأحشاء، وكَسحَت أمواجُه ما بطريقها، وابتلعَت ما شاءت إلى غير رَجعَة. ثورةُ البحر عنيفةٌ قاسية، يخشاها العالمون ببواطِنه، ولا يأمن بطشَها المُتمرسون بنزواته. في غير أحوال الفوران؛ يكون البحر وديعًا هادئًا، وعلى حال الهدوء ذاته يكون البركانٌ ما كفَّ عن إرسال حممِه؛ فإن استعاد عافيته وقوته، انقلب لحينه جبارًا ثائرًا. قد تحلُّ الثورةُ بكُلّ ذي كيان؛ ينطوي باطنُه على احتمالات السكونِ وإمكانات النهوضِ، ولا غرابة إذًا؛ أن تقترنَ بالوَهجِ والنيران والهدير في آن؛ فالجوهر واحد.
***

تكُون الثورةُ أينما تكُون المرأةُ، ويستشري الجور، ويختلُّ الميزان؛ إذ الظلم القابع على صدورِ العموم يطالها مُضاعفًا، والقهر الذي يرزح في رحابه الجميع، يحيط أول ما يحيط بعنقِها. في العادة لا تتهاوى امرأةٌ ببساطةٍ ولا تهن؛ فصلابتها النفسية مَضرِب الأمثال، لكن ميلَها الدائمَ لمُواصلةِ الحياة، وعزوفَها عن الاستسلامِ والانسحاب؛ قد يُوهم الآخرين بقلَّةِ حيلتها، ويزيّن لهم استضعافها.
***

"لا يُولَد المَرءُ امرأةً؛ بل يصير امرأةً"؛ والقصد أنَّ المُجتمعَ يمارس سُلطتَه الهائلة، ويُوزّع قوالبَه الجامدة، وصورَه النمطية، ويُرغم أفراده على الانصياع لها؛ وللنساء ولا شكّ النصيبُ الأعظم مِن مُحاولات الصهر والتشكيل. مع هذا؛ لا تكون نهايةُ القسر إلا كسر للقيد، وتحطيمٌ للصورة المَصنوعة، وثورةٌ تستعيد الحَقَّ المَسلوب.
***

منذ قرنٍ بالتمام، تظاهرت مئاتِ النساء في شوارع المَحروسة، يُلبين نداءَ الثورة، ويزأرن في وجه الاحتلال، رافعات الرؤوس. سقطت مِن بينهن يُمنى ونعمات وفاطمة والحميدتان ونعيمة، وصار سقوطهن في السادس عشر مِن مارس انتصارًا، وعنوانًا بهيًا لثورة ألفٍ وتسعمائة وتسعة عشر؛ يومٌ حفظه التاريخُ كأفضلِ تخليدٍ لنضالٍ المِصريات. مِن رحمِ الثَورةِ يُولد الأملُ ويتجسَّد الطموح، لا في الخيالات والأشعار؛ بل على أرض الواقع المنظور؛ تواصل كفاح هدى شعراوي بلا انقطاع، وأسفر عن أحداث ومكتسبات عظام؛ فمن دعوة لتأسيس أول اتحاد نسائي، وطالبات يطأن للمرة الأولى حرم الجامعة، إلى حقوقِ انتخاب وترشُّح، تصبح أخيرًا ملكًا لكُّل مِصرية. ثورةٌ تلو ثورةٍ؛ أسقطت الحواجز وبدَّدَت القيود.
***
ما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، غيَّرت الثورةُ الصناعية وجهَ العالم؛ فوزَّعت مع تنامي الثروات ظلمًا عريضًا، وخلقت في الوقت ذاته تنظيمًا، وهزَّت قياصرةً وبلدانًا، وأفرزت أحلامًا عارمة وشيدت آمالًا؛ لم يتحقَّق إلا قليلُها عبر عقودٍ طوال. لا يأتي ذكر الثوراتِ إلا وفرضَت الثورة الفرنسية نفسها حضورًا في الأذهان؛ ربما لكثرةِ ما أسالت مِن دماء، وما حَقَّقت مِن انتقام لضَيم طويل حاقَ بالناس، ولا يتطرق الحوار إلى النظريات والكتابات، إلا وذُكِرَت الثورةُ الدائمة، نصّ تروتسكي الذي استحال أيقونة من الأيقونات.
***

كثيرًا ما أعبر بشارع الثورةِ الكائنِ في قلبِ مصر الجديدة؛ أحد أهمّ شوارِعها وأغلاها في السُكنى. في هذا الشارع كما في أرجاءِ الحيّ كُلّه؛ ثورةٌ على ما اعتيد مِن هدوء، وعلى نمطِ البناء، وتركيبةِ السكان. لا يبعد نفقُ الثورةِ عن الشارع بمسافةٍ كبيرة، ويعاني هو الآخر مِن سوء إدارة مُزمن وأضواءٍ قبيحة. كُلَّما أمعنت النظر إلى الشارعِ والنفقِ المُشتركَين في اسمٍ واحد؛ أدركت أنهما تعبيرٌ صادقٌ عن الحال، وقفزت إلى ذاكرتي حماسةُ سنوات ماضية، دفعت بعضَ المَعارف والأصدقاء لإطلاق اسميّ "ثورة" و"ثائر" على المواليد بناتًا وصبيانًا. ربما تيمُنًا بالحدثِ الجَلَل، واستلهامًا للمعاني الكبرى التي تفجَّرت آنذاك في الأجواء. للظرف القاهر صار الاسمان بمنزلةِ مَزحةٍ ثقيلة، يبعث النطقُ بهما مشاعر الفشلِ والهوان، وبقيت في المُخيلة نهايات أفضل، يؤمل أن تجودَ بها الأيام.
***

على مدار أعوامٍ تردَّد في الأرجاءِ هتافُ: ثَورَة ثَورَة حتَّى النصر، ثمَّ صار شعارًا اختنقت به الحلوق وانجرحت القلوب؛ فما استمرَّت الثورةُ مُشتعلة، ولا تحقَّقَ النصر المَرغُوب. في اللحظةِ الراهنة؛ يخاطب مَن أصابهم الإحباطُ وأقعدهم التيبُّسُ والإنهاك، رفقاءً قاموا في الجوارِ يهتفون ويُنشِدون. الخوفُ عند المُحبطين أن يصيبَ الثائرين في ربوعِ الجزائر ما بِهم، وأن يُقعدَهم عن المَسير. يتمنون عليهم مُواصلة الطريق، وإعادةَ الاعتبار للشِعار المَغدور. ما بين ثورةٍ وانقلابٍ في ثوبيهما الصريحين مسافةٌ لا تُخطِئُها عينٌ؛ لكن المَشهد يرتبك بعض الأحيان، وتتشوش بين المفاهيم الحدود، ويختلط الحابلُ بالنابلِ، والثائرُ بالراكعِ، وحرُّ الإرادة بعبدِ الوصاية، ثمَّ يشتبكُ الناسُ بسبب المُسمَّيات ويتراشقون؛ فيما النتائج هي الحَكَمُ، والفيصلُ هو ما آلت إليه الأمور.
***
تختلف الأزمنة والعصور ويبقى للفعل بريقه؛ فمن ثورةٍ هنا إلى ثورةٍ هناك، ومن ربيع إلى خريف أو حتى شتاء، يحمل الناسُ بؤسَهم وأحلامَهم، ولا يكُفُّون عن النظر إلى الأفقِ ولو حجبته الجبال.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات