قامُوس المَساطيل - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 10 أكتوبر 2024 4:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قامُوس المَساطيل

نشر فى : الجمعة 16 أغسطس 2024 - 5:55 م | آخر تحديث : الجمعة 16 أغسطس 2024 - 5:55 م

اقترح واحدٌ من الأصحابِ وَقفةً مُشترَكة لإعداد أقداحِ القَّهوة؛ فمضى الكلُّ نحو المطبخ، حيث دار الكلامُ من جديد، وتخللَّ الحديثَ فائضٌ من الشُّجون. طالَ الانتظار ولم تَصعَد القهوةُ إلى حافَّة الكنكة، ولما التفت صانعُها لجُزء من الثانية عنها؛ قفزت كالعادة من الفُوَّهة وغادرت مُستقرَّها إلى سَطح المَوقِد؛ لينتهي المَوقِف المُتكرِّر بالعبارة الشهيرة التي أطلقها أقربُهم لها ساخرًا: طبعا ما أنتم مَسَاطيل.

 • • •

المَسطولُ في مَعاجِم اللغة العربيَّة هو كلّ مَفعول به وَقع في حالِ من الخِدر، الفاعلُ سَاطلٌ والفِعل سَطَل بفتح الطاء، وغالبًا ما لا يكون عاقل. بعضُ العقاقير تَسطلُ مُتعاطيها، وبعضُ العِلاجات القويَّة تُرهِق الجَّسدَ وتجعل صاحبَه غير مُنتبه لما حوله؛ يبدو كمَن تعاطى عن عَمد ما يذهبُ بالعَقلِ ويَنفيه إلى مكانٍ بعيد.

• • •

السَّطلُ إناءٌ من المَعدن له نصف دائرة تمُرُّ من عروتين ويُمكن تعليقُه منها. أذكر أنني رأيت هذا الإناء كثيرًا مع بائعي الحَليب الجوَّالين منذ أعوام خَلت؛ يحملونه على درَّاجة عادية أو ناريَّة، ومعه قدح صَغير تُقاس به الكميَّة المطلوبة. نَدر اليوم أن يُصادفَ الواحد بائعًا من هؤلاء؛ فقد تواروا من المَشهد تقريبًا، وفقدوا مهنتَهم الأصيلة لصالح الألبان المُعلَّبة التي ذاع أنها أقل تلوثًا وأكثر أمانًا؛ فيما أثبت تتابُع الأيام أنها ربما تكون أسهلَ استعمالًا؛ لكنها لا تحمِل من مَذاق الحَليب ورائحته شيئًا.

• • •

إذا حَسُن الطَّقسُ ولَفح الهواءُ الباردُ المَرءَ فخفَّف من حَملِه وداعب نفسَه وعقلَه؛ قيل سَطلته النَّسمات، والحقُّ أن المُناخَ عاملٌ حاسمٌ في صَوغ المِزاج؛ فإن اعتدلت الحرارةُ وتراجعت مُعدَّلات الرطوبة الخانقة؛ طاب المِزاجُ وراق وبات في حلٍّ من التوتُّر وسُرعة الغَضب، وربما فقد كاملَ اليقظةِ وترك التحفُّز نحو هدؤء البال، ولبث في برزخ الاسترخاء؛ إلى أن يداعبُه الكرى ويجعله مَسطولًا مُنفصلًا عن محيطه.

• • •

من الناسِ من هو مَسطولٌ بطبيعته؛ نادرًا ما يبدو مستعدًا مُتأهبًا لعمل جاد، وغالبًا ما يقع في عديد المآزق؛ إذ يَغفل عن مَواطن الأذى، ويمضي في طريقِه دون تدبير. يَعرفُ المحيطون به علَّته التي يستحيلُ إخفاؤها، ولا يُوكلون إليه مَهامًا حَسَّاسة أو حَرِجة إلا في أحوال الضرورةِ القُّصوى؛ فإن فعلوا وَضعوا في أذهانهم احتمالات شتَّى وتوقعوا الأسوأ.

• • •

إذا نسيَ الواحدُ ما كان عليه أداؤه رغم أهميته؛ نعته الناسُ بأنه مَسطولٌ، والقَّصد أنه مُشتَّت يعوزُه الانتباه، وأنه أشبه بمن شَرِب الخَمر فسَكر وتاه. مِن الناس مَن ينسون أشياءً عجيبة، هناك مَن يَسهو عن إحضار أولاده من المَدرسة، ومَن يَسهو عن مفتاح العربة داخلها بل ويغلقها وهو خارجٌ منها، وثمّة مَن يَسهو عن طبيعة كلامه فيتفوَّه بما لا يَصِحُّ في المَحافل العامة.  

• • •

بعض المرَّات يصبح الانسطال عسيرًا، تقاومه النَّفس ويَرفضُه العَقل؛ مُفضِّلًا الحُضور والتفاعُل مع الأزمة، على الهَرب من المواجهة والتقوقُع في الداخل. عَرِفت من الناسِ من يفقد وعيَه ببساطة، لا يحتاج لصدمة مُروِّعة أو فاجعة هائلة؛ كي يترك حالَ الصَّحو إلى حالِ الغياب. عَرِفت من ينام في غرفة العمليات تلقائيًا قبل أن يفعلَ المُخدِّر أفاعيله، وكذلك مَن يتغلَّب على كمِّيات من المُنوِّمات تكفي لإسقاط فيل؛ يبقى يقظًا مهمًا فَعل ومهمًا تكالبت عليه العواملُ التي تُحبِّذ الانسحاب. يتفاوت التفاعُل بين شخص وآخر؛ ولا عجب في هذا فالعَقلُ يتصرَّف كثيرَ الأحيان على غير رَغبةِ صاحبه، وغالبًا ما يختار الأصلح.

• • •

عرضَت شاشاتُ السينما فيلم المَساطيل في مَطلع التسعينيات، أدَّت دورَ البطولة ليلى علوي، إلى جانب محمود حميدة ونجاح الموجي، أما السيناريو فكتبه وحيد حامد والإخراج لحسين كمال، والقصَّة تدور فعليًا حول مَجموعة من الأصدقاء الذين تتباين ظروفهم؛ لكنها تدفعهم إجمالا لحال غير مُتزِنة يتعاطون بسببها المُكيِّفات، ويَصلُ الأمرُ لقتل أحدهم. كان الفيلم في وقت عرضِه مثيرًا للجدل؛ اعترضَت الرقابةُ على تصميمِ إعلانه، واتهمَه بعضُ النُّقاد بأنه مُتجاوِز للأعراف الاجتماعيَّة وحاضٌّ على سلوكيَّات مُخيفة؛ أما اليوم فإنه يبدو من السَّذاجة بمكان؛ إذ تدهوَرت الأوضاعُ بما لم يكُن في الخاطِر؛ لتوحيَ بتصوُّرات آنية أكثر بشاعة وتدنيًا وانحطاط.

• • •

إذا ارتكب واحدٌ أمرًا عجيبًا لا يمكن استيعابه ولا تصديقه؛ تلامز الناسُ بأنه قد "انسطل"، والحقّ أن كثيرَ الأفعال التي بتنا نراها على السَاحةِ تندرجُ تحت هذا التوصيف، وتلوُح نتاجًا مباشرًا لاختلال وظائفِ العَقل وفقدانها الحدود الدنيا مِن التناغُم والترابُط وابتعادها عن سُبل الحِكمة والرَّشاد.

• • •

المَسطول في أيامنا هذه أكثر ارتياحًا من كلِّ مُستفيق؛ فالأحوال مُوجعةٌ بما لا يُطاق، والعَجز عن التعامِل معها بالكيفية المُلائمة يُزيد الوجع ويفتُّ العضد، كما يُحبِّذ الانفصال عن الواقع؛ فإن نجح الواحد في استبعاد المؤرقات، بات أقل تأثرا وأكثر قدرة على مُمارسة حياته واستيفاء مسئولياته؛ مع هذا فإن إغماضَ العَين لا يُزيل القُّبحَ عن الوجود، وصمّ الأذن عن المآسي لا ينفي تتابعَها.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات