القيم الأخلاقية والأمن القومى - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القيم الأخلاقية والأمن القومى

نشر فى : الأربعاء 16 سبتمبر 2020 - 6:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 16 سبتمبر 2020 - 6:45 م

رغم البون الشاسع بين النظام الماركسى والنظام الفاشى الذى جعلهم أضاد فى كل القضايا إلى أن وصل الأمر بينهما إلى الصدام المسلح فى الحرب العالمية الثانية، بين روسيا والحلفاء فى جانب، والقوى الفاشية فى ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية فى جانب آخر التى انتهت بسقوط النظم الفاشية.
رغم هذا العداء السافر إلا أن الطرفين التقيا فى قضية واحدة، فقد كانا على قناعة بأن الثورة الصناعية وتراكم الثروة فى الدول الصناعية أدت إلى ظهور بوادر الانحطاط Decadence فى هذه المجتمعات، واتفق الطرفان على مظاهر هذا الانحطاط الذى يضعف بنية الإنسان ويفسد أخلاقه وأبرزها ترف العيش المبالغ فيه والإسراف الشديد الذى يصل إلى حد السفه وانتشار المخدرات والخمور والشذوذ، وهو ما قد حذر منه ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة قبل وقتهم بأكثر من خمسمائة عام.
ولعل ما حفز ألمانيا على الاستنفار ضد الانحلال كان ما عانته بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى والانحلال الذى تعرض له شعبها بسبب انهيارها الاقتصادى نتيجة للعقوبات التى فرضتها اتفاقية فرساى، فأصبحت النوادى الليلية والمواخير والدعارة والشذوذ جزءا هاما من سبل الاسترزاق فى بداية الثلاثينيات من القرن الماضى. أما فى الاتحاد السوفيتى فكان الحال رد فعل لحالة البؤس الشديدة التى عاشها السواد الأعظم من الشعب مقابل الترف السفيه الذى عاشته الأقلية من النخبة والنبلاء وكبار الملاك خلال حكم القياصرة ثم المعاناة الشديدة خلال الحرب الأهلية التى أعقبت الثورة ثم الحرب العالمية الأولى.
●●●
كان الفن أول ضحايا التطرف اليمينى واليسارى خاصة وأن النخبة على الجانبين أصابهم الانزعاج من موجة الفن الحديثة فى أعقاب الحرب الأولى وطغيان النمط الأمريكى، فحلت موسيقى الجاز محل الموسيقى الكلاسيك وحلت رقصات الفوكس تروت والشارلستون محل الفالس وأخيرا السينما الأمريكية.
حاول الطرفان احتواء الضرر ومنع الانحلال Decadence بأسلوب سلطوى، فمنعا موسيقى الجاز والرقصات الأمريكية الحديثة والكتب الأدبية التى تزكى إطلاق الحريات ووصل الأمر إلى تنظيم مهرجانات لحرق الكتب ذات المواضيع غير المرغوب فيها فى ألمانيا ومنع المدارس الجديدة فى مجال الرسم مثل التكعيبية والسريالية ودخل العديد من الفنانين السجون فى ألمانيا والعديد أرسلوا إلى منفى الجولاج السيبيرية فى الاتحاد السوفيتى.
ونظمت ألمانيا النازية فى عام 1937 معرضا للفن الهابط Decadent Art عرضت خلاله رسومات صودرت من المتاحف وضعت بجانبها بيانات تشرح عناصر الانحطاط فيها وتحذر الشعب من آثارها وتؤكد أن ألمانيا الجديدة لن تسمح بهذا الانحطاط.
وفى الاتحاد السوفيتى قدم ستالينى رؤيته فى ورقة عنوانها «حول إعادة بناء المنظمات الأدبية والفنية» فى عام 1932 ثم وضع اتحاد الفنانين تحت سيطرة الحزب الشيوعى من أجل خلق نظرة إبداعية فنية موحدة على أساس الواقعية الاشتراكية. حاول الجانبان أيضا تربية كادرات شابة ملتزمة برؤيتها، فعلى الجانب اليمينى أسست ألمانيا النازية منظمة الشباب الهتلرى ورابطة فتيات ألمانيا BDM كما أسس الحزب الفاشى الإيطالى منظمة الشباب الفاشستى الإيطالى GIL. أما على جانب اليسار فقد أسس الاتحاد السوفيتى مؤسسة الشباب الشيوعى Komsomol، وكان هدف الجانبين تربية أجيال شابة محصنة ضد الانحلال.
●●●
ولكن هل نجحت هذه الإجراءات فى حماية المجتمع الفاشى أو المجتمع الماركسى من الانحلال والتفسخ؟ وهل نجح فى بناء المجتمع المثالى الذى توهماه؟ يقول لنا التاريخ إن التجربة الفاشية سواء فى ألمانيا أو فى إيطاليا لم تعمر لأكثر من عشرين عاما فى أى منهما أما الاتحاد السوفيتى فقد انهار بنظامه الماركسى بعد فترة أطول بلغت سبعين عاما، ولم تسهم الإجراءات الماركسية أو الفاشية إلا فى أن يسود التنمر والتمرد فى صفوف الشعب، فهجر صفوة الأدباء والفنانين والمبدعين الألمان إلى الشتات مثل إريك ماريا ريمارك وتوماس مان، وحرم الروس باسترناك من استلام جائزة نوبل لخروجه عن الخط الرسمى للدولة، وقام الشباب الإيطالى بسحل موسولينى وعشيقته بعد هزيمته، وتنصل الألمان من كل رابطة بهتلر، وحدث تفسخ شديد فى المجتمع الروسى بعد سقوط الاتحاد السوفيتى وشاعت الجريمة المنظمة واشتهرت المافيا الروسية.
فشلت التجارب السلطوية للدفاع عن فضائل المجتمع وفى نفس الوقت توحشت أدوات الرذيلة وتغربت، فمدينة مثل لاس فيجاس فى ولاية نيفادا الأمريكية تعيش على ملاهى واجهتها القمار وباطنها الخمور والمخدرات والدعارة والمجلات الإباحية مثل Pent House وPlay boy فصارا إمبراطوريات تتحكم فى عقول وشهوات الجمهور، وباتت الدول الكبرى تضغط لإباحة الشذوذ والمثلية والمخدرات استنادا إلى تفسيرهم للإعلان العالمى لحقوق الإنسان!
ولعل أخطر التطورات التقنية التى تهدد منظومة القيم فى المجتمع هى وسائل الاتصال الإلكترونى والتواصل الاجتماعى التى كانت الضربة القاضية وقضت تماما على قدرة رب الأسرة على التحكم فيما يدخل بيته ويشاهده أولاده.
هذه التطورات تجعل من حماية قيم وأخلاقيات المجتمع من أهم دعائم الأمن القومى وتحتاج إلى يقظة ورصد دقيق للظواهر الهدامة والدخيلة على المجتمع التى بدأت تظهر فى العالم وفى مصر كجزء من هذا العالم، وأخص بالذكر حادث يتم تداول تفاصيله بكثافة فى وسائل التواصل الاجتماعى عن ما يتردد عن اغتصاب جماعى لفتاة فى فندق شهير وما تم تداوله عن تجاوزات أخلاقية جسيمة مرتبطة بهذه الواقعة. وتمثل هذه الواقعة علامة خطر شديدة على المجتمع مهما قال القائلون إنها حادثة شاذة منعزلة. خطورة الواقعة فى أنها تمس شبابا ينتمى إلى أكثر الطبقات ترفا وثراء تلقوا تعليمهم فى أغلى وأرقى المؤسسات التعليمية فى مصر، مدارس دولية وجامعات خاصة مصروفاتها السنوية تعد بمئات الألوف وكلهم تجاوزوا سن الرشد، أى أن الدفوع التقليدية للانحراف من فقر وجهل وحداثة سن معدومة.
يضاف إلى ذلك أن الحادث ليس منعزلا لكنه قمة جبل الجليد لحوادث أخلاقية أخرى مثل تحرش طبيب ثرى وله مكانة اجتماعية مميزة بمرضاه وابتزازهم بشرائط صورها لهم، وحفل موسيقى حضره عدد كبير من شباب الطبقة المترفة رفعت فيها أعلام دعاة الشذوذ، وحفلات سبق أن أقامها من سموا أنفسهم بعبدة الشيطان.
فى مقابل هذا الخطر يواجهنا خطر داهم آخر، خطر من يدعون مواجهة هذه الموجة بحكم بوليس سلطوى يحول الشعب إلى روبوتات يحركها الزعيم بالريموت كونترول مثل ما يحدث فى كوريا الشمالية وفريق آخر يرى أن الدين هو الحل إلا أن رؤيته المشوهة لا ترى جانب الأخلاق والقدوة والأسوة الحسنة فى الدين ولا ترى منه إلا حجر الراجم وسوط الجالد وسيف الجلاد.
كيف نواجه الجائحة العالمية التى تستهدف القيم والأخلاق بشكل يحمى مجتمعنا دون أن يحولنا إلى مجتمع جامد متحجر يرفض الحداثة ويعزل نفسه عن العالم ويهدد الفن والجمال ويهدد التنوير والرشاد؟
أعجز عن الإجابة لكن هذا السؤال الذى تحتاج الإجابة عنه إلى تضافر آراء علماء وأساتذة العلوم السلوكية من علم النفس وعلم الاجتماع وخبراء علم التربية والإعلام والقانون ورجال الدين الإسلامى والمسيحى فى جهد قومى مشترك، ولكنى أستطيع أن أؤكد أن الخطوة الأولى هى الاعتراف بجسامة الخطر دون التقليل منه وأن نعى أنه إذا كان البعض قد حذر من ثورة الجياع فلا يمكن إغفال خطر فجور المتخمين ولنستحضر قول الله فى كتابه العزيز «وإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَة أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَرْنَاهَا تَدْمِيرا».

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات