لا أدرى لماذا تظل «التربية المدنية» غائبة عن المدارس، رغم كثرة المطالبة بها؟ هل للانشغال بتدريس المقررات الدراسية، رغم الشواهد على ضعف دور المدرسة التعليمى أم لعدم الإيمان بجدوى التربية المدنية واعتبارها أنشطة لا لزوم لها؟
التربية المدنية هى تكوين التلاميذ، منذ الصغر، على قيم المشاركة، والتعاون، واحترام الاختلاف، وقبول الآخر، ببعض الدروس المدرسية، لكن الأهم من خلال الأنشطة التى يُطلق عليها خبراء التربية «المنهج الخفى»، الذى يتشرب من خلالها الأطفال والنشء القيم بالممارسة والنشاط. فى كل يوم نطلع على أحداث تقع فى المدارس، على اختلاف أشكالها وأنواعها، من عنف وتنمر وتحرش، قد تكون الإجراءات العاجلة من جانب وزارة التعليم مهمة للتصدى للانحرافات، لكن المواجهة المستدامة تكون على المدى الطويل من خلال برامج التربية المدنية التى توجه ذهن الصغار والنشء على قيم ومبادئ، تظل معهم فى مسيرة حياتهم المقبلة. فالمدرسة ليست منشأة تعليمية فحسب، بل هى أيضًا مؤسسة تكوين إنسانى وثقافى ووجدانى، وهذا هو الدور الغائب، والذى ينتج عنه كل الشرور فى المجتمع من تطرف وتعصب وكراهية وعنف وتنمر وإساءة للمرأة وتعالٍ على المختلفين فى الثقافة أو الوضع الاجتماعى أو المعتقد الدينى.
والملفت أن كل مؤسسة أو جهة إدارية دون تنسيق كافٍ مع الجهات الأخرى. دعنى أتساءل ونحن فى العام الأخير من الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان (2021-2026)، وعلى مشارف استراتيجية جديدة، هل بلغ علم الأطفال والنشء شيئًا عن حقوق الإنسان، أو تلك الاستراتيجية، التى أعلنها رئيس الجمهورية، والتزمت بها الدولة المصرية دون أن يفرضها أحد عليها؟ هل رغم كثرة الحديث عن المواطنة، والتنوع، وثقافة الاختلاف يدرك تلاميذ المدارس مضمون تلك الأفكار، التى تتردد فى الخطابات السياسية، من قمة الهرم السياسى، فضلًا عن أحاديث المثقفين، وكتابات الأكاديميين؟ قد يوجد درس أو أكثر فى المناهج الدراسية عن تلك الموضوعات، لكن هل مارس التلاميذ والنشء ثقافة المواطنة؟ هل يدركون معنى التنوع الثقافى، ويمارسون التطوع فى العمل الأهلى، وتقدم لهم ثقافة إنسانية ترتقى بوجدانهم ووعيهم؟
فى أحاديث كثيرة يتساءل الناس: كيف نغير المجتمع ثقافيًا؟ أظن من خلال الأطراف الوسيطة التى نطلق عليها «الأصوات المؤثرة» فى الجمهور العام مثل المدرسين، والإعلاميين، ومنتجى الخطابات الدينية، والمثقفين، والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعى، أى كل من يحمل فكرًا، ويتصل بالجمهور. الإشكالية، ليست فى إنتاج الأفكار الكبرى، لكن فى تسويقها، ونشرها، وتقديمها فى قالب يناسب الجمهور، لأن من نعتبرهم أطرافًا وسيطة فى نشر الأفكار، يغلب على البعض منهم أفكار سلبية، واتجاهات غير إيجابية، يعيدون إنتاجها فى اتصالهم بالناس العاديين. هل مدرس أو داعية أو إعلامى متعصب، أو لا يؤمن بعالمية حقوق الإنسان، نتوقع أن يكون قناة إيجابية فى نشر الثقافة الإنسانية والتسامح؟ هل ننتظر أثرًا إيجابيًا من شخص غير مؤمن بحقوق المرأة لديه تواصل مع الجماهير؟
سوف يظل المجتمع بعيدًا عن أفكار التغيير الثقافى الحقيقى طالما أن الأحاديث نخبوية، والأطراف المؤثرة غائبة، أو تعانى فى ذاتها من تراجع ثقافى، ويكون الحل فى تكوين مجموعات من المؤثرين من المدرسين والإعلاميين ومنتجى الخطابات الدينية والمثقفين الذين يمتلكون الوعى، والإدراك الثقافى، والاستنارة الذهنية حتى يكونوا نواة تغيير حقيقى فى اتصالهم بالجمهور العام.
من هنا فالمدرسة ستظل مؤسسة مهمة، ليست فى التعليم فحسب، لكن فى التكوين الذهنى والثقافى والإنسانى، هذه هى مسئوليتها، ورسالتها، وغيابها يؤدى إلى أمراض اجتماعية وثقافية شديدة الوطأة على جهود تقدم المجتمع.