ماذا يبقى من الوطن؟ - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 7 مايو 2024 2:25 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماذا يبقى من الوطن؟

نشر فى : الخميس 17 يونيو 2010 - 10:27 ص | آخر تحديث : الخميس 17 يونيو 2010 - 10:27 ص

 ألحت علىّ فكرة هذا المقال طويلا قبل أن أحسم ترددى وأكتب عنها. كان مبعث ترددى أنها قد تحمل بالنسبة للبعض وربما الكثيرين درجة عالية من درجات التشاؤم بخصوص حاضر الوطن ومستقبله، لكن الهاجس ظل يلح على بقدر ما كان واضحا أن «فيه حاجة غلط» إذا تذكرنا اسم المسلسل التليفزيونى الشهير الذى اضطلع بدور البطولة فيه منذ عقود الراحل المبدع حسن عابدين.

كدت أن أحسم ترددى بعد أن حسم الاتحاد الدولى لكرة القدم أمر الشكوى المصرية ضد الجزائر بسبب أحداث أم درمان العام المنصرم معتبرا إياها فاقدة الأسانيد، ناهيك عن الانتصار لشكوى الجزائر بخصوص الاعتداء على حافلة المنتخب الجزائرى فى القاهرة بعد أن أنكرنا طويلا واقعة الاعتداء، بل ونسبناها للاعبى الفريق الجزائرى أنفسهم، وصدقنا أنفسنا إلى حد اليقين.

وراجعت فى حينه تصريحات المسئولين الكرويين المصريين وما ورد بشأن الموضوع فى عديد من وسائل الإعلام المصرية، وكلها تشير إلى هذا الأسلوب الجزائرى المألوف من أجل توتير المباراة، وتشتيت أذهاننا قبلها، إلى أن ضبطنا متلبسين بالكذب بعد تحقيق أجراه الاتحاد الدولى لكرة القدم.

وربما يكون الأسوأ من هذا أن أحدا لم يفكر فى حساب أحد على ما بدر منه من تجاوزات أضرت بالسمعة المصرية. مع ذلك فإننى لم أحسم ترددى بسبب خشيتى من أن التفصيل فى الموضوع قد يكون ــ ولو جزئيا ــ نوعا من جلد الذات يساعد على شيوع أكثر للإحباط لدى القارئ الذى لا ينقصه هذا الشعور بالتأكيد.

هممت بعد ذلك بأن أحسم الأمر بعد انتخابات مجلس الشورى. ليس من منظور اتهامات التزوير وإبرام الصفقات فهذا مما أفاض فيه الكثيرون الذين يعرفون ما لا أعرف من التفاصيل والملابسات، لكننى توقفت عند مسألة واحدة تتعلق بشيوع العنف الذى يبدو وكأنه أصبح من مسلمات الانتخابات المصرية. تسمرت عيناى طويلا أمام صور نشرها عديد من الصحف، ولقطات حية بثها عدد من الفضائيات التليفزيونية لشباب يسير آمنا مطمئنا قرب لجان الانتخابات وهو يحمل نوعا من «الشوم» بت أعرف ملامحه جيدا منذ تكرر ظهوره فى الانتخابات المصرية، ومصادمات عنيفة قبل الانتخابات وأثناءها على نحو يشير إلى أنها باتت فاقدة المصداقية.
وتذكرت فى أسى أن دولا عربية ــــ ولا أقول أوروبية أو أمريكية ــ قد شهدت انتخابات تشريعية فى ظروف لا يمكن مقارنتها من حيث سوئها بالظروف المصرية، ومع ذلك فقد سارت الانتخابات فيها على ما يرام دون أن تشهد هذا العنف الممجوج.

تذكرت فى هذا السياق الانتخابات التشريعية الفلسطينية فى 2006 التى لم تجر فى هدوء فحسب وإنما فازت فيها قوة المعارضة الأساسية لفتح، وتذكرت كذلك الانتخابات التشريعية اللبنانية التى جرت فى 2009 فى ظروف أزمة سياسية خطيرة نعرفها جميعا، وكيف جرت فى هدوء تام، وفازت بها الموالاة عكس توقعات كثيرة، ولم تفكر قوى المعارضة التى تملك إحدى فصائلها قوة عسكرية كافية لإرهاب كل خصومها أن تعترض على نتائج الانتخابات، ناهيك عن أن تلوح بما فى حوزتها من قوة للتأثير فى ميزان القوى السياسية. تذكرت ثالثا وأخيرا الانتخابات التشريعية العراقية التى جرت هذا العام، ولم يعكر العنف صفوها فى بلد كاد العنف يمزقه دويلات، بل لقد فازت القائمة المعارضة فى هذه الانتخابات بأكبر عدد من مقاعد السلطة التشريعية.

تذكرت بعد هذه الأمثلة أن العنف فى الساحة المصرية لم يعد سياسيا فحسب، فهؤلاء طلاب يستخدمون السنج والمطاوى للاعتداء على مراقبين لم ييسروا لهم مخالفة قواعد الامتحان، وهؤلاء باعة جائلون فى الإسكندرية يعترضون على إخلائهم من الأماكن التى اعتادوا ممارسة عملهم فيها، ويلجأون إلى عنف واضح تظاهرهم فيه مجموعات واسعة من شباب المنطقة، وتبدأ حرب ضروس بين «الأهالى» و«الشرطة».

بل لقد أصبح العنف الفردى بدوره ظاهرة مخيفة فى حياتنا اليومية بما فى ذلك العنف الموجه إلى الذات. ويحتاج كل من هذه الأمثلة إلى بحث اجتماعى سياسى متعمق، لكن الحقيقة الماثلة أمام الجميع تبدو واضحة: أن العنف بات يشاطرنا حياتنا اليومية على نحو مزعج.

وعلى الرغم من كل ما سبق فإننى لم أحسم ترددى إلى أن وصلت الأمور لحالة من الخطورة لا يمكن السكوت عليها عقب الأزمة الأخيرة بين المحامين والقضاة، والطريقة التى أديرت بها هذه الأزمة. سبب هذه الأزمة يبدو أتفه من أن يفسرها: سلوك ينطوى على احتقار أو استخفاف من قبل ممثل النيابة بحق محامٍ لم يجد معه وسيلة للرد إلا الاعتداء بالضرب المبرح على ممثل النيابة. لكن هذا السبب لا يمكن أن يفسر الأزمة إلا إذا كان يخفى وراءه احتقانا عميقا بين جناحى العدالة، ترك من دون علاج حتى تقيح الجرح إلى هذا الحد.

لكن ما أفزعنى حقيقة أننى لم أتصور مهما كانت الاتهامات الموجهة إلى ممثل النيابة فى هذه الواقعة أن يصل الأمر بالمحامين ــ الجناح الثانى للعدالة ــ إلى استخدام العنف، وذروته العنف الذى مس بعض رموز السلطة القضائية فى هذا المكان أو ذاك، وإلى الاعتراض على حكم محكمة ــ مهما كان جائرا ــ بغير الوسائل القانونية التى يستمدون منها مكانتهم الرفيعة فى المجتمع، وربما أفزعنى أكثر ما بدا من أن نقيب المحامين منساق لما يجرى، بل قائد لتصعيده وهو الذى يفترض فيه أن يكون بحكم منصبه الرفيع أول حماة العدالة بجناحيها، وتساءلت بينى وبين نفسى: أيكون الحرص على الشعبية بين الجمهور أشد من الحرص على مستقبل الوطن؟

ولا أنكر كذلك أن قلقا عظيما قد أصابنى لما أعرفه من علاقة وطيدة بين النقيب والحزب الحاكم، فالرجل فاز منذ مدة قصيرة بأحد مقاعد مجلس الشورى بدعم كامل من الحزب، وحصل بفضل هذا الدعم على عدد هائل من الأصوات لم تعرفها انتخابات مجلس الشورى قبلا، وكان مبعث قلقى أن الحزب إما أن يكون ممتنعا عن توجيه الرجل أو نصحه، ولهذا دلالته الخطيرة، أو أن دوائر داخل هذا الحزب لا تستشعر الخطر مما يجرى، أو لعل بعضها والعياذ بالله يبدو سعيدا به.

وهكذا استمرت الأزمة، وقبل نفر من المحامين أن يتساووا بأهالى بعض المدانين الذين لا تعجبهم أحكام المحكمة فيقدمون على تحطيمها ومحاولة الاعتداء على القضاة، مع أنهم ــ أى المحامين ــ كانوا يملكون بدائل أخرى أولها دون شك هو الآليات القانونية المتعارف عليها للاعتراض على الأحكام، وثانيها هو الإضراب السلمى الذى قد يصيب مصالح المواطنين بالضرر لكنه بالتأكيد لا يمثل مساسا بسلطة العدالة كما حدث فى ملابسات «ثورة المحامين».

والحقيقة أننى كنت أشفق على السلطة القضائية منذ مدة طويلة، لكن المصدر الأساسى لإشفاقى كان هو التدخل الإعلامى الفج فى أعمالها، فما أن يصدر حكم إلا وتقوم كل وسائل الإعلام أو كثير منها على الأقل بالتعليق عليه بما يصل إلى حد التشكيك فى نزاهة السلطة القضائية، وإعطاء المجال واسعا لكل من يريد التعريض بالأحكام أو المساس بها لكى يدلى بدلوه فى الموضوع، ناهيك عن اعتبارات البحث عن الشهرة التى تدفع البعض إلى أن يتقمص شخصية «الطاووس» أو «الأسد» وهو يتحدث عما فعله أو ينوى فعله فى هذه الأحكام «المهترئة».

بل لقد بدأ مؤخرا بعض الأقلام ذو الوزن الإعلامى يعزف على نغمة تجاوزات السلطة القضائية، وتدخلها فى أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا يدرى المرء هل يعتبر الحكم بعدم دستورية تشريع صدر عن مجلس الشعب من قبيل التدخل فى أعمال السلطتين؟ وهل الحكم بعدم عدالة سلعة استراتيجية تصدرها مصر إلى إسرائيل مثلا بموجب تفاهم أو اتفاق لم يعرض على مجلس الشعب يعتبر تدخلا فى أعمال السلطة التنفيذية؟ وألا يعتبر عدم الاعتداد برأى السلطة القضائية فى صحة نتائج الانتخابات استخفافا بهذه السلطة؟

روى لى مفكر بارز من المغرب العربى منذ سنوات عديدة أن ديجول بعد أن تم تحرير فرنسا من الاحتلال النازى قد فوجئ بدرجة التشاؤم التى تخيم على نفر من المثقفين الفرنسيين بشأن مستقبل فرنسا، فسألهم سؤالا واحدا لا ثانى له: أمايزال القضاء والجامعة بخير؟ فقالوا نعم. فعقب قائلا : لا خوف على مستقبل فرنسا إذن.

لا يعنى ما سبق أنه لا توجد معضلة بشأن السلطة القضائية فى مصر. أحد أبعاد هذه المعضلة أن بعض دوائرها يبدو أحيانا مغردا خارج السرب، كما فى الموقف من تعيين المرأة فى مجلس الدولة، أو أن بعض أحكام القضاء يغيب عنها التقدير العام لمصلحة المجتمع وتماسكه كما فى الأحكام الأخيرة الخاصة بالأحوال الشخصية للأقباط، أو ما هو منسوب لبعض ممثلى هذه السلطة من تعسف فى التعامل مع المحامين أو التعالى عليهم، أو العصبية الزائدة فى التعامل مع الأزمة الأخيرة سواء فى التصريحات أو الأحكام. لكن لهذا كله حلوله القانونية والسياسية، وليست حلوله بالتأكيد هى ما شهدناه من تطورات مؤسفة فى العلاقة بين المحامين والقضاة.

ويحتاج الأمر لكى نصل إلى تلك الحلول المرجوة إلى قيادات مسئولة على كل المستويات لا تسارع إلى إطفاء نيران الأزمات فحسب، وإنما تعمل على حل المشاكل من جذورها، لكننا فى حالتنا هذه وفى جميع المستويات لا سارعنا إلى الإطفاء ولا سعينا إلى استئصال أسبابها الحقيقية، بل لقد بدت متابعة البعض لها أشبه بمن «يتفرج» على حريق ضخم وقع فى إحدى بلدان أمريكا اللاتينية.

ولا تقتصر المسئولية هنا على القيادات السياسية وإنما تمتد إلى القضاة والمحامين أنفسهم الذين أعلم علم اليقين أن غالبيتهم من أصحاب الهامات العالية والمواقف الموضوعية، وكان تدخل هؤلاء حرى بأن يئد الأزمة فى مهدها، ومع ذلك فإن صوتهم غاب أو بدا باهتا أو مترددا، وكان الكل يخشى على «شعبيته» بين أبناء المهنة أكثر من الخشية على مستقبل الوطن.


لن تكون هذه الأزمة هى الأزمة الأخيرة فى الساحة المصرية إذا استمرت أحوالنا على ما هى عليه، بل إن المنطق يشير للأسف إلى أن ما هو قادم ربما يكون أسوأ، لكن استقرار الوطن وأمنه لم يعد يحتمل مزيدا من هذه الأزمات. فهل نتقى الله جميعا فى مصر ومستقبلها!

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية