الديمقراطية التعاقدية ومستقبل الوطن - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الثلاثاء 5 نوفمبر 2024 2:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الديمقراطية التعاقدية ومستقبل الوطن

نشر فى : الأحد 17 نوفمبر 2013 - 7:00 ص | آخر تحديث : الأحد 17 نوفمبر 2013 - 7:00 ص

ضمن ما تعلمناه منذ يناير ٢٠١١ وحتى الآن، أن الديمقراطية ليست مجرد انتخابات وأحزاب وإجراءات، ولكنها أيضا ثقافة وممارسة والتزام بالتعهدات. الدرس ليس جديدا، فعلم السياسة على ضعفه البين فى التوقع بما قد يقع فى المستقبل، يبقى قويا فى تقديم تحليلات واستخلاصات من الماضى والحاضر، ومن ضمن تلك التحليلات أن الديمقراطية فى مراحل التحول والتغيير السياسى لها ملامح وفلسفة مختلفة عن تلك التى يتم ممارستها فى الديمقراطيات المستقرة والمؤسسة منذ حين، ذلك أن الدول الأخذة فى التحول تمر بظروف سياسية واقتصادية ومؤسسية مختلفة عن الدول حديثة العهد بالتحول الديمقراطى ومن ثم يجب لها معالجة وفهم مختلفين.

فى عام ٢٠٠٨ صاغ عالم الاقتصاد السياسى السويسرى هانز جيرسباش «Hans Gersbach» مصطلح «الديمقراطية التعاقدية « contractual democracy» فى محاولة للتغلب على معضلات تطبيق الديمقراطية حتى فى الدول الراسخة فى التجربة، بحيث تنفض العلاقة بين الناخب والمرشح بمجرد فوز الأخير مع ضعف آليات الرقابة والمساءلة، فضلا عن علاقات المال والسياسة والتى حولت الصناديق والأصوات والمرشحين إلى مجرد سلع يتم تسويقها لزبائن عبر خبراء تسويق فى شكل دعايا وحملة انتخابية! فى مقترحه حاول جيرسباش تطوير المفهوم عبر اقتراح صياغة عقد يتضمن حوافز للمرشح الفائز فى الانتخابات، بحيث إن المسألة ليست مجرد تحصيل أصوات ولكنها تتحول إلى عقد يلتزم به المرشح الفائز أمام ناخبيه بتحقيق بنود يتم الاتفاق عليها وقت الترشح ويتم مكافأته حال الالتزام بها، ويقترح جيرسباش أربعة أشكال للعقد، يتخذ الأول شكل التعهد بتحقيق مطالب الناخبين والالتزام أمامهم بأجندة انتخابية اجتماعية واقتصادية حال الالتزام بها تكون المكافأة متمثلة فى إعادة ترشحه مرة أخرى، أما الثانى فيتمثل فى تقديم حوافز غير مادية وأخرى مادية لدعم المرشح والحزب الذى يلتزم ببرنامجه الانتخابى، أما الشكل الثالث فيتمثل فى تقديم حوافز وضمانات للمرشح بعد تقاعده حال تمكنه من تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة طويلة الأجل لمجتمعه، أما الشكل الأخير فيتخذ شكل تقديم دعم وحوافز للمرشح الذى يتمكن من تحقيق الفوز إذا ما ثبت أنه فاز بعد أن حصل على أصوات الشباب فى دائرته فى إشارة الى انحيازه لقضايا المستقبل.

ورغم أن المصطلح مازال قيد التطوير ومازال هناك جدل فى مدى إلزامية العقد وفى الجهة التى ستتمكن من مراقبته والتحقق من التزاماته، إلا أننى أقترح تطوير المشروع ليعنى أن الحزب أو القائد الفائز فى انتخابات عامة تكمن شرعيته الحقيقة فى مدى التزامه بالتعهدات التى التزم بها وقت ترشحه ولا تقتصر الشرعية إذن على مجرد أصوات حصل عليها الفائز فى لحظة زمنية قصيرة. ولعل فهم الديموقراطية والشرعية بهذه الوجهة فى المحروسة يحيلنا إلى فهم كثير من معضلات المشهد الحالى المتعلق بشرعية الرئيس المعزول محمد مرسى، ذلك أن الأخير امتلك شرعية الصناديق بالفعل، ولكنه لم يحافظ على شرعية العقد الذى صاغه مع جمهور الناخبين الذين انحازوا إليه حينما احتاج إلى أصواتهم ومن ثم فقد الشرعية التعاقدية على النحو الفائت شرحه.

 

ومنذ قيام الثورة المصرية فى يناير ٢٠١١، لم تنشئ هذه الفكرة التعاقدية إلا فى مايو/يونيو ٢٠١٢ وقت الانتخابات الرئاسية، وطوال تلك الفترة كان الجدل دائرا بين «شرعية الميادين» و«شرعية الصناديق» إلى أن جاء محمد مرسى مرشحا للجماعة طارحا برنامجا توافقيا مع حملة تتحدث عن «الوطن» لا عن «الجماعة» مع مجموعة محددة من التعهدات التعاقدية والتى تم استخدامها بكثافة بعد الجولة الأولى وقبل الجولة الفاصلة والمتمثلة فى مشروع النهضة وبرنامج المائة يوم الأولى، وكان توقيع العقد رسميا وبشكل لا يقبل الشك فى مؤتمر الفيرمونت الشهير قبل ساعات من إعلان النتيجة النهائية والذى أضاف تعهدات أخرى إلى التعهدات الأولى متمثلة فى حكومة توافقية وتعيين ثلاث نواب للرئيس فضلا عن الالتزام بأجندة ثورية..الخ، أما وقد سقط مرسى لأنه لم يحترم شرعيته التعاقدية بعد عام كامل من الحكم، فإن عقدا جديدا قد تم توقيعه فى الثالث من يوليو فى بيان عام تضمن التزامات وتعهدات وخارطة طريق أعلنها وحضرها وزير الدفاع وشيخ الأزهر وبابا الكنيسة وممثلون لكل من حزب النور وجبهة الانقاذ والمرأة والشباب.

ورغم أن رأيى (ولا يزال) أنه كان يجب استفتاء الشعب على هذه الخارطة للحفاظ على المسار الديمقراطى، إلا أنه بتحليل مضمون خطاب البيان (حوالى ١٠ دقائق لوزير الدفاع، ودقيقة ونصف لشيخ الأزهر ومثلها للدكتور البرادعى وممثل حزب النور، فضلا عن دقيقتين ونصف لبابا الكنيسة) فقد تم توقيع شرعية جديدة غير مقيدة بأصوات انتخابية ولكنها ملتزمة بتعهدات تعاقدية تمثل أساس شرعية من فى السلطة الأن، وقد تمثلت بنود هذا العقد الثمانية فيما يلى:

(١) الاعتراف بشرعية ثورة يناير واعتبار ٣٠ يونيو «حركة مشروعة للجماهير» (خطاب الفريق السيسى)

(٢) التأكيد على دور الجيش كضامن وحامى للشعب وخارطة طريق دون أن يتدخل فى الشأن السياسى (خطاب السيسى وخطاب شيخ الأزهر وخطاب البابا).

(٣) تعطيل الدستور من أجل تعديله (خطاب وزير الدفاع وخطاب البرادعى).

(٤) إجراء انتخابات رئاسية مبكرة (خطاب السيسى وخطاب البرادعى وخطاب شيخ الأزهر).

(٥) التأكيد على المصالحة الوطنية والدمج من خلال إنشاء لجنة معنية بالأمر لإنهاء حالة الانقسام بين التيارات السياسية (خطاب السيسى، وخطاب البرادعى وخطاب شيخ الأزهر).

(٦) ميثاق شرف إعلامى لتحقيق نزاهة الإعلام انتصارا لمصلحة الوطن (خطاب وزير الدفاع).

(٧) عصمة دم المصريين (كل الخطب بلا استثناء).

(٨) تمكين الشباب وجعلهم شركاء فى صنع القرار (خطاب السيسى).

وبعد أربعة أشهر من هذا التعاقد الذى يمثل أساس شرعية الحكم الآن علينا أن نستعجب من الانقلاب على معظم هذه التعهدات واحدا تلو الآخر، فثورة يناير والتى مثلت البند الأول من التعاقد تم محوها من مسودة دستور لجنة العشرة ولا نعرف إن كانت ستعود فى المسودة النهائية لمسودة لجنة الخمسين أم لا، أما البند الثانى، فسرعان ما تم التحايل عليه من قبل بعض النخب ويبدو أنه لاقى ترحابا ما عند بعض القيادات العسكرية فتم شن حملة تروج للسيسى رئيسا وتصف من يقف ضد هذا الترشح بأنه معادى لمصلحة الوطن! أما الدستور فقد ادعى بعض من يقوم بتعديله بأنه يضع دستورا جديدا للبلاد وليس مجرد تعديلات! أما الانتخابات الرئاسية المبكرة التى مثلث البند الرابع فى التعاقد فقد جاء الإعلان الدستورى فى ٨ يوليو ليؤخرها إلى أخر المطاف فى تحدى عجيب لمطالب الجماهير التى وقعت على استمارات تمرد خصيصا من أجل ذلك الهدف، ولا حاجة إذن لتذكيرك بباقى البنود المتعلقة بتمكين الشباب أو عصمة الدماء أو ميثاق الشرف الإعلامى فأنت قطعا تعلم ما حدث لهذه البنود، ولكنى أدعوك للتوقف برهة أمام تلك الحملة الشعواء التى تم شنها ضد المطالبين بالمصالحة والدمج ووصفهم بالطابور الخامس والخلايا النائمة رغم أن الفريق السيسى هو أول من صاغ المصطلح بعد ٣٠ يونيو ومثلت البند الخامس فى التعاقد الجديد (راجع البيان لمزيد من التأكد) ولا تعليق!

 

إن مستقبل الوطن أصبح رهينا بذلك الفهم الجديد للديمقراطية، فمع ضعف الأحزاب والانقسام الشعبى الواضح حول الأحداث منذ ٣٠ يونيو وحتى الآن، ومع الجدل الدائر حول الشرعية، لا بديل عن العودة إلى مفهوم التعاقد كأساس للشرعية ولأن العقد شريعة المتعاقدين فلا مفر من مراجعة خارطة ٣ يوليو وتقنينها والالتزام بما ورد بها مع ضرورة وجود مادة فى الدستور تتيح سحب الثقة من أى رئيس حتى قبل أن يكمل مدته وفقا لضوابط معينة، وبدون ذلك يصبح المستقبل رهنا لمقامرات غير محسوبة.

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر