فى رثاء بارنز آند نوبل - محمد المنشاوي - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 2:31 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى رثاء بارنز آند نوبل

نشر فى : الخميس 18 يناير 2018 - 9:55 م | آخر تحديث : الخميس 18 يناير 2018 - 9:55 م
قبل أيام أغلقت سلسلة مكتبات «بارنز آند نوبل Barnes & Noble» لبيع الكتب أحد أكبر فروعها والذى يقع على مقربة من بيتى. ولم يكن غلق هذا المكان حدثا تقليديا ينطبق عليه منطق «محل يغلق وآخر يفتح» باعتبار ذلك سُنة من سُنن الحياة الحديثة. فقد ارتبطت بهذا المكان لسنوات طويلة، وأصبح الارتباط فريدا ومعقدا بعدما انضم له طفلاى الاثنان عندما جاءا للحياة قبل ثمانى وخمس سنوات ماضية. ومنذ انتقالى للعاصمة الأمريكية للإقامة فيها قبل أكثر من عقد من الزمان أشهد بلا توقف حركة سلبية تعكسها تطورات التكنولوجيا والعمران وأثرت بصورة خاصة على مكانين يجمعنى بهما العشق الذى يُترجم فى ساعات طويلة أقضيها فيهما بانتظام، ألا وهما مكتبات بيع الكتب وصالات السينما. أُغلقت الكثير من صالات السينما فى واشنطن، وكانت هذه الصالات تعرض أفلاما أجنبية من مختلف بقاع الأرض، وكانت تعرض أفلاما أمريكية مستقلة غير تجارية تتعرض لموضوعات غير تقليدية، وكانت تعرض أفلاما لسينمائيين غير معروفين، وكانت تعرض أفلاما هى العمل الأول للكثير من المنتجين والمخرجين. اليوم لم يصمد أمام موجة غلق صالات العرض التى تعرض أفلاما غير تجارية إلا عدد قليل تصارع معه مظاهر التقدم التكنولوجى السريع والتى يضيق معها إمكانية جذب الشباب والأجيال الصغيرة لصالات العرض خاصة مع توافر تكنولوجيا المشاهدة المباشرة لأحدث الأفلام على الأجهزة المحمولة. أما موضوع غلق المكتبات فهو مختلف تماما ولأسباب عدة.

***

عرفت مكتبات بارنز آند نوبل، واعتقدت بداية أنها تعاملنى بوصفى ملكا متوجا! فقد شجعتنى على قضاء ساعات طويلة فيها إما لغرض الدراسة والمذاكرة فى فترة الدراسة بعد الجامعية، أو لقضاء ساعات متطلعا آخر المجلات وأحدث الدوريات من مختلف دول العالم فى مجالات الاهتمام الشخصية. وبين هذا وذاك مئات وربما آلاف الكتب، وبالنسبة لى فقد كانت بمثابة ثورة حقيقية أن يُتاح لى ولأى شخص أن يمكث لساعات بين عالم الكتب والمجلات والدوريات، ويمكنه تصفحها أو قراءتها بكل حرية دون أن يشترى أيا منها، ويضاعف من حبك لهذا المكان وجود محل للقهوة يبيع أنواعا طيبة من المشروبات الساخنة والباردة وبعض السندوتشات والمخبوزات. ومع تعرفى أكثر على عالم بيع الكتب داخل واشنطن، جاء اليوم الذى تدور فيه الدائرة لتعصف بمكتبات بارنز آند نوبل. فقد دفعت هذه المكتبة مئات وآلاف من مكتبات بيع الكتب الصغيرة والتى تدار عن طريق عائلة أو شخص للإفلاس والغلق. فقد وفرت نموذجا عملاقا صعبت معه المنافسة من هذه المحلات الصغيرة، وعلى الرغم من وجود ما يزيد اليوم على ألفى محل أو مكتبة صغيرة لبيع الكتب، فإن هذا الرقم وصل فى بعض الفترات لما يزيد على عشرة آلاف محل مستقل لبيع الكتب. وكذلك أخرجت بانز آند نوبل منافستها لسنوات طويلة وكانت تدعى بوردرز من المنافسة قبل أن تعلن إفلاسها. ومع هذه التطورات شهدت تحول أحد مكتبات بارنز آند نوبل الرئيسية والكبيرة المساحة والذى يقع فى قلب منطقة جورج تاون بواشنطن إلى محل شهير لبيع أدوات ومستلزمات رياضية، وشهدت كذلك تحول مكتبتين أخريين تقعان على بُعد عدة مئات من الأمتار من البيت الأبيض إلى احدى سلاسل محلات بيع الملابس.

***

وعلى الرغم من ذلك، ومن المثير للاستغراب كذلك أن شركات بيع الكتب الأمريكية مازالت تحقق ملايين الدولارات من الأرباح سنويا وذلك لتبنيها آخر الإبداعات التكنولوجية، إضافة لقدسية القراءة عند الشعب الأمريكى الذى يصل معه متوسط عدد الكتب التى قرأها الأمريكى إلى 11 كتابا سنويا. وخلال عام 2016 تخطت مبيعات الكتب فى أمريكا مبلغ 14 مليار دولار، مع ملاحظة أن حجم صناعة النشر الأمريكية تتخطى ما قيمته 30 مليار دولار، وبلغ نصيب بارنز آند نوبل منها ما يقرب من 3.8 مليار دولار. 

تمتلك بارنز آند نوبل حاليا 632 محلا منتشرين فى أغلب ولايات أمريكا، وتبيع 190 مليون كتاب سنويا سواء من مكتباتها أو موقعها الإلكترونى، وتقع فى المركز الثانى فى المبيعات خلف موقع أمازون. لعبت أمازون دور العملاق تجاه مكتبات بارنز آند نوبل التى بدت صغيرة فى مواجهة عملاق جديد لا يبدو أن أحد قادرا على إيقافه بعد. وتحمل أرفف مكتبات بارنز آند نوبل أكثر من ألف صحيفة أمريكية وغير أمريكية، إضافة إلى ما يزيد عن خمسة آلاف مجلة. وطورت بارنز آند نوبل جهاز قراءة إلكترونى خاصا بها أطلقت علية اسم NOOK، ويمكن من خلاله الوصول لأكثر من 4.5 مليون كتاب. ولا يسبق مكتبات بارنز آند نوبل سوى موقع أمازون فى حجم مبيعات الكتب فى سوق ضخمة حيث تم طباعة وبيع 2.7 مليار كتاب فى الولايات المتحدة العام الماضى، وجاءت كتب الطهى والمطبخ والرحلات والألعاب الرياضية وروايات الإثارة والجريمة على رأس الكتب المبيعة. 

***

حكيت للأولاد الصغار أن عمر هذه المكتبة أكثر من مائة عام إذ تأسست عام 1873 على يد شخص اسمه تشارلز بارنز فى ولاية إلينوى وذلك قبل أن يتعرف ابنه لاحقا على مكليفورد نوبل لإنشاء بارنز آند نوبل إبان الكساد العظيم، والذى رفع فيما بعد راية متجر بارنز أند نوبل الذى تم فتحه بمدينة نيويورك عام 1917، والذى لايزال موجودا حتى يومنا هذا. تساءل أطفالى الصغار باستغراب لماذا يتم غلق مكان محبب لهم وللكبار من حولهم كذلك؟ مكان شهد أول ارتباط لهم بعالم الكتب والقراءة، مكان صنعوا فيه صداقات، وحملوا معهم منه ذكريات. أجبتهم بأنها سُنة الحياة، وأن عليهم انتظار افتتاح مكتبة على بعد خطوات من مكتبتهم المفضلة بعد أسابيع قليلة. فقد أُعلن أن أمازون سيفتتح مكتبتين على الأقل فى واشنطن، إحداهما تجاور الموقع القديم لبارنز آند نوبل، والأخرى تجاور مكتبة أخرى لبرانز آند نوبل أغلقت قبل سنوات.
محمد المنشاوي كاتب صحفي متخصص في الشئون الأمريكية، يكتب من واشنطن - للتواصل مع الكاتب: mensh70@gmail.com
التعليقات