غادر عالمنا المفكر العظيم نصر أبوزيد مثل هذا الأسبوع منذ ١٥ عامًا. قد لا يعرف الكثير من الأجيال الجديدة من هو نصر أبو زيد، وأود أن أقول لهم إن فكر هذا الرجل يومًا ما، عندما تنقشع الغمة ويتفتح العقل، سوف يكون له شأن كبير فى صياغة مستقبل الوطن بفكر جديد يتيح التفكير والإبداع الذى يصيغه عقل الإنسان، ويومها سوف تتحطم تابوهات كثيرة وننطلق جميعًا إلى آفاق جديدة.

كان نصر أبو زيد بعد تغريبة طويلة قد استقر مع زوجته فى بيت جديد فى مدينة ٦ أكتوبر، وقبل تمام الاستقرار دعى إلى مؤتمر فى إندونسيا، وهناك أصيب بفيروس غامض وأدخل المستشفى وهو غائب عن الوعى، ونقل إلى القاهرة حيث رحل بعد فترة قصيرة عن عالمنا ودفن فى قرية قحافة المجاورة لطنطا والتى ولد فيها وعاش طفولته.

نصر أبوزيد من مدينة طنطا، لعائلة مصرية بسيطة، لم تستطع أن تدفع بابنها المتفوق إلى الجامعة، وتعلم حتى أنهى دراسته فى مدرسة الصنائع قسم اللاسلكى، حتى يعمل ليكفل إخوته بعد وفاة أبيه، وفعلًا عمل عاملًا فنيًا فى مصلحة التليفونات، ولكنه كافح وحصل على نهاية التعليم الثانوى من منازلهم أثناء عمله، ودخل كلية الآداب وتفوق فى قسم العربية، وعين معيدًا بالقسم.

وحصل على الماجستير وكان عنوان الرسالة «التأويل العقلى عند المعتزلة»، عام ١٩٧٦، بتقدير ممتاز، واستمر فى دراسته حتى حصل على الدكتوراه عن «فلسفة التأويل: دراسة فى تأويل القرآن عند محيى الدين بن عربى» عام ١٩٨١، وفى المرحلة بين الماجستير والدكتوراه سافر بعثة إلى أمريكا عام ١٩٧٨ فى منحة من مؤسسة فورد، زار عددًا من الجامعات واطلع على طرق البحث الحديثة وتعمق نصر فى دراسات أخرى لها علاقة باللغة العربية والأدب العربى والشعبى، والتى ساعدته على إنهاء الدكتوراه.

ثم سافر فى منحة إلى جامعة أوساكا فى اليابان حيث كتب هناك أهم كتاب فى حياته الفكرية  "مفهوم النص: دراسة فى علم القرآن" وكتابه  "نقد الخطاب الدينى". وكلا الكتابين أصبحا  مرجعين  دراسيين وعلميين هامين للباحثين.

كتاب «مفهوم النص» دراسة متعمقة لفهم النص القرآنى من منظور لغوى ومنهجى. يدرس الكتاب أثر القرآن الخالد على الثقافة الإسلامية ويحلل الكتاب كيف يتشكل النص من خلال الواقع وكيف يتشكل الواقع من خلال النص، ويناقش التفسير والتأويل مع دور المفسر فى تحديد دلالة النص ويشرح الكتاب التحويلات التى طرأت على مفهوم النص عبر العصور، والكتاب يشكل محاولة لفهم النص القرآنى من خلال المنهج اللغوى والمنهج التاريخى والمنهج المقارن.

كتاب مفهوم النص لنصر أبوزيد، كان دراسة جديدة من نوعها فى علوم القرآن بطريقة ومنهج علمى حديث ومختلف عن الكم الهائل من الدراسات السابقة. ولكن الدارسين التقليديين لم يعجبوا به، وبعد أن أصبح نصر عالمًا مرموقًا فى تخصصه فى مصر وفى العالم بدأ الهجوم عليه وعلى أفكاره تدريجيًا.

تحالف ضد نصر التيار الإسلامى المتشدد الذى كان عالى الصوت والنبرة، وكان يستخدم العنف لتهديد وتخويف معارضيه، وكان له وجود فى الشارع وفى الجامعات وفى الهيئات الحكومية. وتحالف أيضًا مجموعة من الشيوخ الهامين والدارسين لعلوم القرآن والذين نشروا وكتبوا فيها، فرآى بعضهم أن أفكار نصر الحديثة والمختلفة قد تشكل خطرًا على وضعهم الأكاديمى وفى وسط الهجوم من المجموعتين. وفى عام 1993 تقدم نصر بأبحاثه لنيل وظيفة أستاذ، فلم يوافق عضوان من الثلاثة على ترقيته من بينهما الشيخ عبد الصبور شاهين، ولكن مجلس القسم ومجلس الكلية رفضا قرار اللجنة، ووافقا على ترقيته. ولم يوافق مجلس الجامعة بعد موافقة مجلس الكلية فى سابقة نادرة.

بدأ جدل شديد داخل الجامعة حول أحقية الحكم على ضمير وأفكار الباحث ورفض ترقيته لهذا السبب. وأصبح الأمر قضية رأى عام حين أجرى لطفى الخولى فى الأهرام حوارًا مفتوحًا استمر أسابيع طويلة بين مؤيدى رأى نصر ومعارضيه. فى هذه الفترة كان التيار الإسلامى المتشدد عالى الصوت والنفوذ، فرفع أحد المحامين دعوى على نصر تتهمه بالكفر، واستمرت القضايا فى الدرجات المختلفة حتى انتهت بالحكم بتفريق نصر عن زوجته د. ابتهال يونس لأن نصر كافر ولا يجب أن يستمر زواج مسلمة من كافر. وأثار الحكم ضجة كبيرة، وكان الحكم دعوة علنية لأن يحل دمه، فوضع عليه حراسة ومنع من الخروج من بيته.

خلال هذه الفترة ونصر محبوس فى بيته كنا نزوره فى منزله ونجلس مع محاميه ونتباحث فى المستقبل. كانت فترة عصيبة ولكن نصر وابتهال كانا متماسكين.

عرض على نصر وظيفة أكاديمية فى جامعة ليدن فى هولندا، وسافر إلى هناك، واستمر فى أبحاثه العلمية المتميزة فى جو أكاديمى فى جامعة متخصصة فى الدراسات الإسلامية، فألف كتبًا كثيرة ونشر أبحاثًا عظيمة، وكان له تأثير كبير فى كل البلاد العربية، وإن استمر الهجوم عليه بشراسة من التيار الإسلامى المتشدد.

واكتشف نصر أن أبحاثه وكتبه صعبة على القارئ العادى، ولذا بدأ يتحدث إلى العامة مبسطًا أفكاره ومسهلًا أدواته، وظهر على الشاشة الصغيرة فى مختلف البلاد العربية. ونشر كتبًا للقارئ العادى.

وبعد أن هدأت الضجة، عاد نصر إلى مصر فى عدة زيارات قصيرة، تلاها زيارة طويلة فى 2008 بدعوة من مكتبة الإسكندرية لإلقاء سلسلة من المحاضرات المتخصصة، وفوجئت المكتبة أن الآلاف جاءوا ليحضروا محاضرات نصر أبو زيد. وقرر نصر أبو زيد العودة للإقامة فى مصر فترات طويلة بعد أن وصل إلى سن التقاعد فى جامعة ليدن.

خلال إقامته فى هولندا حصل نصر على أستاذ كرسى كليفيرنجا عام 2000، وهو كرسى لمدة عام يحصل عليه من دافع عن الحرية وحقوق الإنسان، وهو شرف كبير. قدمت له الجائزة ملكة هولندا فى احتفال مهيب. وحصل على كرسى ابن رشد فى جامعة أوترخت عام 2002، وعلى كرسى ابن رشد فى جامعة برلين عام 2005. ترجع صداقتى لنصر أبو زيد منذ عام 1990، وبعد صدور كتابه العمدة «مفهوم النص». توثقت الصداقة معه ومع زوجته الرائعة د. ابتهال يونس الأستاذة بكلية الآداب. وحين وقعت الواقعة ودخلنا فى سلسلة المحاكمات، كنت مع مجموعة من الأصدقاء قريبين من نصر، وفى زيارات مستمرة لمنزله. وبعد أن صدر الحكم حوصر المنزل بالشرطة خوفًا عليه من متطرف مخبول، واستمرت الزيارات حتى ميعاد المغادرة النهائية. استمرت العلاقة الوثيقة طوال سنوات الهجرة الإجبارية، فكنت أزور نصر وابتهال مرتين أو ثلاث مرات كل عام وأمضى معهما ساعات طويلة.

حضرت مع الراحل الدكتور أحمد مرسى والدكتورة شيرين أبو النجا، حفل الدكتوراه الفخرية لنصر أبو زيد فى لايدن، واعتبرنا أنفسنا ممثلين لجامعة القاهرة التى ننتمى لها ولبسنا الأرواب الجامعية ومشينا فى طابور التكريم فى الحفل. وفى أول زيارة له إلى مصر بعد النفى أقمت حفلًا فى منزلى لجميع أصدقائه الذين اختارهم بالاسم، ودعوته للحديث فى النادى الشهرى لأعضاء هيئة تدريس جامعة القاهرة للتحدث لمجموعة 9 مارس المنادية باستقلال الجامعات والحريات الأكاديمية. واستمرت علاقتنا الوثيقة مع هذا الرجل الوطنى العظيم والمثقف الكبير ومع زوجته د. ابتهال حتى وفاته. نصر كان يؤمن بالحرية لنفسه ولكل معارضيه، وللبشر أجمعين، وهو الذى قال: يجب أن نتحرر من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان فى عالمنا الآن، وقبل أن يجرفنا الطوفان.

يقول نصر فى كتابه الذى خطه فى هولاندا: أؤمن تمامًا بأن التجربة الحياتية تقع فى قلب ما نسميه بالمعرفة. تجاربنا وخبراتنا هى التى تشكل المعرفة. هناك الهم السياسى والاجتماعى والوطنى المسيطر على خطاب نصر طوال مراحل حياته ويبدو أن هناك تأثيرًا كبيرًا من الإقامة فى اليابان على حياته.

وتصبح المشكلة عند نصر كيف يصبح دمج الحداثة التى هى ضرورية للتقدم بالفكر الإسلامى. وهى النقطة التى حدث بسببها خلاف حاد بين نصر ومعارضيه من الإسلاميين التقليديين.