فَــــراغ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:50 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فَــــراغ

نشر فى : الجمعة 19 فبراير 2021 - 6:30 م | آخر تحديث : الجمعة 19 فبراير 2021 - 6:30 م

دخلتُ المحلَ كعادتي لأبتاع صنفًا معينًا مِنْ المخبوزاتِ، فلم أجد فيه سواي. درجتُ على أن أنسل وسط الزحامِ الشديدِ الذي يملأه وأن أنتظر طويلًا إلى أن يسألَني واحدٌ من الباعةِ عن طلبي. هذه المرةُ لحقَت بي البائعة التي كانت خارج المحل لتقول في ابتسامة واسعة "تأمري". ابتسمتُ بدوري غير مصدقة وتطلعت في الأرفف الزجاجية فلم أجدْ ما أريد.
***
لم أهتمْ كثيرًا بالحصولِ على بديلٍ. هممتُ بالمغادرة لكن بائعًا ثانيًا جاء يرحب بوجودي، ثم ثالثًا يرجوني أن أجرّب صنفًا آخر، ورابعًا يؤيد جميعهم، فهمت أن المحل خاو منذ الصباح؛ لم يدخله زبونٌ واحدٌ ولم يبع أي شيء من بضائعه التي كانت تنفد فور وصولها. الأرفف نفسها لم تحتو الكثير، قطعٌ قليلة مرتبة من الكيك والكنافة وبعضُ أكياس البُقسماط. سألت عن السرِ ففهمت أنّ الجو المتقلب مَنَع إحضار الكم المعتاد، كما مَنَع الزبائن من الحضور. رَجَاني أربعتهم أنْ أشتري أي شيء.. أي شيء ليسجلوا في الدفتر وعلى الحاسوب أنهم قد باعوا في هذا اليوم العجيب ولو قطعة واحدة.
***
مضى شهر طوبة مسالمًا، لا درجات حرارة انخفضت ولا برد شديد أجلس الناس في البيوت؛ لم يكن طوبة هذا العام هو طوبة الذي عرفناه على مدار الأعوام بل أشبه بشهر من شهور الصيف التي تعلن شمسها حضورًا واثقًا. حل منذ أيام شهر أمشير برياحه؛ كاسحة مضاعفة وكأنه يعوض هدوء طوبة ويؤكد قدرته على التحكم في مسارات البشر وتفاصيل أيامهم، بما لا تقدر عليه أي سلطة أخرى.
***
طوبة وأمشير ينتميان إلى التقويمِ المصري القديمِ الذي وُضِع منذُ أكثر من ألف سنة قبل الميلاد واستخدَمَه الأقباطُ وصار يُعرف أيضًا بالتقويم القبطيّ؛ هو أصدق ما تنبأ بتغيرات الطقس، والوصف الذي حملته الأشهر المعروفة باسم "الأشهر القبطية"، وصاغه المصريون في عباراتٍ طريفةٍ طالما كررها الكبار وتوارثتها أجيال عديدة؛ هو أدق وصف تنجبه قريحة شعبية عفوية. يُقال في برودة طوبة إنها: "تخلي الشابة كركوبة" أي تضعضع عظامها وتوهنها، وتأخذ منها القوة والعنفوان، أما عواصف أمشير وهو اسم الإله المسئول عن الزوابع فيقال فيه: "يفصص الجسم نسير نسير" أي جعله مهترئًا من شدة الريح كأنه ثوب ممزق.
***
يخشى أصحاب الجيوب الأنفية الحساسة ما يفعله بهم أمشير. يحمل هواؤه الأتربة وكل ما علَقَ بالجو من ملوثات وحبوب لقاح وجزيئات خفيفة وثقيلة؛ ليدفع بها إلى الأنوف ويخرب أغشيتها المخاطية ويلهبها. تنسدُ الفراغاتُ وتفرز الأنف المصابة سوائِل تدافع بها عن سلامتها، وتبدأ نوبات العطس والحرقان ثم تكتمل الأعراض المزعجة التي يتسيدها وجع الرأس. أعرف من الأصدقاء من يتجنب ترك بيته في هذا الشهر إلا للضرورة القصوى، اتقاءً لابتلاع شرائِط مِن مضادات الحساسية ولاستخدام البخاخاتِ والمسكناتِ.
***
ارتبَطت الشهورُ المصريةُ القَديمةُ بمواقيتِ الزراعةِ وغرسِ الحبوبِ وجنيِ المَحاصيلِ، كانت هي الأعم استخدامًا على مدار فترات طويلة، ثم لم تلبث أن تنحّت وترَكَت الساحةَ لخبراء الأرصاد الجوية الذين يُمسكون بالعصا ويُشيرون للجماهير نحو مرتفعاتٍ ومنخفضاتٍ، ثم يقدمون التحذيرات والنصائح والإرشادات؛ صَدَقَت أو لم تَصدُق. على كل حال، لم تعُد الزراعة تحتل أهمية قصوى في الأذهان ولا ظلت المواقيت على جديتها، فالتكنولوجيا الحديثة وفرت وسائل عدة للتغلب على العوامل الجوية فاستخدَمَ الزُراع الصوباتِ، واستنبتوا المزروعات في غير أوانها؛ دون النظر إلى التفاصيل الصغيرة كالرائحة أو المذاق.
***
ابتعتُ من المحلِ بعض المُقرمشاتِ كي لا أخزل البائعين والبائعات. خرجتُ فلم أجد من حولي أي شخص. كانت المنطقةُ خاويةً من البشر، رغم أن المحلَ يقعُ في النادي، والنادي ما انفك يمتلئ يوميًا بآلاف الزوار مع تعطيل الدراسة وتخفيض قوة العمل. ثلاث فتيات في أواسط العمر وقفن أمام الباب متفرقات يدحرجن بأقدامهن كرة قدم ويتبادلن ركلها. أدركت من الزي الموحد أنهن ضمن فريق البائعات. تحت قطرات المطرِ الخفيفةِ التي خلفتها العاصفة انضممت لهن في حماسة لنرحب بأمشير.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات