أخبار جيدة من مصر.. هل ممكن؟ - معتز بالله عبد الفتاح - بوابة الشروق
الأربعاء 4 ديسمبر 2024 1:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أخبار جيدة من مصر.. هل ممكن؟

نشر فى : السبت 19 يونيو 2010 - 10:04 ص | آخر تحديث : السبت 19 يونيو 2010 - 10:04 ص

 هناك فتور فى همة المصريين وتراجع فى حماستهم لوطنهم، هذا مما لا تنكره عين. هذا الفتور وفقدان الحماس من عوامل النقص فى عناصر قوة الدولة. ويجعل أهل الاختصاص «الروح المعنوية» واحدة من عناصر قوة الدولة الشاملة لما لها من تأثير مهم فى قدرة المجتمع أن يبتكر وأن ينتج أو يستغل عناصر قوة الدولة المادية مثل الموارد الطبيعية والطاقة الصناعية والقوة العسكرية.

ومن هناك جاءت أهمية أن يشعر أبناء الوطن الواحد بأن لهم مهَمة تخرج بهم خارج المهام الفطرية التى يتلاقى فيها البشر مع الحيوانات والنباتات مثل الطعام والشراب والتكاثر. وهو ما يجعل الكثيرين من أبناء مصر ينظرون بتقدير لفترة حكم الرئيس عبدالناصر، حيث كانت همم الكثير من المصريين أعلى وطاقتهم أوفر، اعتقادا منهم بأنهم يتلاقون مع لحظة تاريخية يصنعون فيها المستقبل. وهو ما نفتقده الآن بشدة.

ومن هنا يكون من المفيد أن نتواصى بالأمل والعمل كما نتواصى بالحق والنقد فى أعمال أولئك الذين يسيئون لمفهوم الوطن ولواجبهم تجاهه ممن يستغلون مناصبهم لمصالحهم من أجل شراء أراضى الدولة بأرخص الأسعار أو احتكار سلع إستراتيجية حتى يحققوا أرباحا مهولة، ضاربين عرض الحائط بمصالح الوطن. لكن هناك جانبا آخر من المعادلة. هناك من يعمل بشرف وأمانة واجتهاد من أجل الصالح العام وهم يصنعون ما يعمل فى صالحهم الشخصى أيضا.

فليس من المتوقع أن يتحول أهل مصر إلى ملائكة يستيقظ أحدهم صباحا ليقول: «ما الذى عليه فعله اليوم لخدمة المجتمع والناس؟» وإنما المنطقى أن يعمل كل منا من أجل مصلحته المباشرة وأن يكون فى مصلحته المباشرة تلك نفع كبير للوطن من خلال إتقانه لعمله وحسن أدائه له. ولا شك أن تلك النماذج موجودة ولابد أن تخصص لها أجهزة الإعلام مساحات أكبر حتى لا تبدو مصر فى عيون شبابها فقط كساحة لصراعات الكبار والأقوياء ممن اجتمعت لهم السيطرة على أدوات القمع ومقومات الاقتصاد وأدوات الحكم والتشريع.

ومن هنا فقد وجدت لزاما علىّ أن أشير إلى نجاحات تتم على أرض مصر وينبغى أن نشير إليها لنعلم أن مخزون الحضارة الكامن داخل الإنسان المصرى موجود لكنه يحتاج لتفعيل كما أننا نرى الأرض هامدة حتى إذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، كما قال القرآن الكريم. بل إن استنهاض طاقات المجتمع فى مجال ما قد يكون له انعكاسات إيجابية على مجالات أخرى. فلولا ارتفاع مستوى تعليم أبناء الطبقة الوسطى فى الكثير من دول أوروبا الشرقية، لما حدث التحول الديمقراطية من قاع المجتمع إلى قمته على النحو الذى رأينه بدءا من منتصف ثمانينيات القرن الماضى.

وسآخذ مثالا واحدا تعرفت عليه بالمصادفة ولكنه يستحق أن يوضع فى المقدمة، نراقبه وندعمه ونعلن عنه حتى يعود للوطن مكانه فى قلوب أبنائه. وهذا المثال هو الجهود المبذولة الآن من قبل جهات البحث العلمى وبعض الجامعات المصرية من أجل دعم جهود البحث العلمى فى مصر والذى، هو لا شك، جزء لا يتجزأ من عناصر قوة الدولة المصرية.

وحتى لا أكون مبالغا فى احتفائى بما قرأت وشاهدت من جهود فقد قررت أن أستخدم أدوات التحليل الميدانى لفهم ما يحدث بما قادنى إلى باحث مصرى نابه بالمعايير العالمية حصل فى عام 2009 على جائزة أكثر الباحثين نشرا فى جامعة القاهرة لأنه نشر 15 بحثا فى دوريات أجنبية محكمة، وهو الدكتور هانى الشيمى، الأستاذ بكلية الزراعة، جامعة القاهرة. وهو بذاته قد حصل على جائزة عبدالحميد شومان للباحثين الشبان العرب، من الأردن عام 2005 بما يعنى أن هذه الأرض الطيبة لم تزل تنبت وتثمر شبابا قادرا على أن يحمل همها ويضيف إليها رغما عما تعانيه كثير قطاعاتها من فساد وإهمال.

وهو بالضبط النموذج الذى تحتاج أمثالَه مصرُ بحق فى هذه المرحلة من تاريخها. ورغما عن تعدد العروض التى وصلت إلى هذا الباحث المتمكن، لكنه أبلغنى بأنه مُقدَّر فى مصر جيدا ماديا ومعنويا سواء بسبب جوائز ومكافآت يحصل عليها الباحثون النابهون من جامعة القاهرة أو من وزارة التعليم العالى والبحث العلمى. وهو ما فتح باب المفاجأة بالنسبة لى؛ فعادتى أن نابهى مصر يشكون تحديدا من المشهد الدرامى الذى جسده المدرس نجيب الريحانى حين سأله مدرب الكلب فى فيلم غزل البنات عن مهنته وراتبه فقال بكل تهكم: «لا أنا بتاع كتب.. أنا بتاع علم» (أى أنه لا يساوى المكانة الأدبية والمادية التى وصل إليها مدرب الكلب).

أعود للدكتور هانى الذى عرفنى على موقع «صندوق العلوم والتنمية التكنولوجية» على النت (عنوانه: stdf.org.eg) والذى أنشئ سنة 2007 وهو أمر جيد ومحزن فى نفس الوقت. الجيد فى الأمر أننا أخيرا وصلنا إلى ما وصلت إليه دول كثيرة سبقتنا فى دول الجنوب سواء فى آسيا أو أمريكا اللاتينية أو حتى بعض الدول العربية. والأمر المحزن أننا تأخرنا كثيرا ولم نقم بجهد كافٍ لتعريف الباحثين المصريين بوجوده وبأنشطته المتعددة.

ويقوم الصندوق بدعم البحث العلمى فى مجالات العلوم التطبيقية والأساسية بهدف أن تؤدى هذه البحوث إلى النشر فى دوريات علمية عالمية، بما يفضى إلى براءات اختراع، ثم نماذج قابلة للتطبيق الصناعى، ثم فى النهاية منتجات صناعية قابلة للاستهلاك المحلى أو التصدير للخارج. وهو ما جرى على تسميته فى الخارج اقتصاد المعرفة «knowledge based economy» وهو ما لا يمكن أن تحدث انطلاقة اقتصادية كبرى بدونه. واللافت أن هذا الجهد جزء من تصور أكبر لوضع بل ولتطبيق إستراتيجية متكاملة للنهوض بالبحث العلمى ووضعه فى المكان اللائق به من خلال الاستفادة من طاقات الباحثين المصريين فى الخارج وفى الداخل أيضا. ألم أقل لكم إنها أخبار جيدة؟ قليلة هى لكنها موجودة.

ومما يبشر بخير أن الصندوق يمنح تمويلا لمشروعات بحثية على أكثر من مستوى: بعضها لصغار الباحثين تحت سنة الأربعين وبعضها لإعادة توطين الباحثين المصريين المغتربين أى بدلا من نزيف عقول أبنائنا المتعلمين (brain drain)، يسعى القائمون على الصندوق إلى استعادة العقول المصرية المهاجرة (brain gain). وهو هدف مهم للغاية، فالباحثون المصريون فى الخارج يتخرجون ويعملون فى أفضل الجامعات ومراكز الأبحاث العالمية ولكنهم يجدون أن الفجوة المعرفية والعلمية بين مصر وما تعلموه هائلة لدرجة لا يمكن لهم معها أن يعودوا إلا بخسائر هائلة على المستوى النفسى والعلمى فيتملكهم الإحباط فلا أفادونا بشىء ولا أفدناهم نحن بشىء.

وهو ما سعى الصندوق إلى التغلب عليه بأن جعل بعض هذه المنح يصل إلى مليون ونصف المليون جنيه مصرى، ويمكن أن يكون راتب فريق البحث فى حدود نصف هذا المبلغ بما يمكن الباحثين من أن يعيشوا حياة كريمة يجمعون فيها العلم والاطمئنان المادى الذى يليق بكل مجتهد لا سيما العلماء.

وهو تحول فى الفكر أيضا؛ حيث كانت أكاديمية البحث العلمى فى السابق تفتت أموال المنح إلى مشروعات صغيرة، فلا يكون الفريق البحثى قد وصل إلى شىء ذى بال ولا يكون الوطن قد استفاد من جهود هؤلاء لأن المشروعات البحثية الكبرى تحتاج عملا دءوبا يصل إلى عشر ساعات فى اليوم داخل المعمل أو فى مواقع البحث المختلفة ولفترة طويلة من الزمن. وهو ما أسعدنى كثيرا فى شخصية الدكتور هانى الشيمى الذى لمست فيه روح الباحث الجاد والدأب والأمل التى اعتدتها بين الباحثين فى الخارج؛ حيث ينسى أحدهم وجوده المادى وهو فى معمله يعمل لساعات طويلة وتحركه الرغبة فى النجاح الشخصى والجماعى.

وهى حقيقة أخلاقيات البحث العلمى فى أى مكان فى العالم ولكن لندرة ظهورها فى الفضاء العام فيكون واجبا وطنيا على وسائل الإعلام أن تعرفنا على أبنائنا الذين يقدمون صورة مختلفة عن واقعنا. هذا الواقع الذى يسيطر على أجندته الإعلامية وزيران يحصلان على قطعة أرض فيردهما عنها ولى الأمر بمنطق «اسرقوا بس بالمعقول» دون تحقيق كافٍ فيما سبق من ممارسات أو فى الثغرات القانونية التى تمكن وزيرا أن تتكسب شركاته من الاتجار فى أراضى الدولة مع تأكيد السادة المسئولين المتكرر على أنه لا يوجد تعارض فى المصالح أو استغلال نفوذ حين يتولى رجل أعمال وزارة تعمل فى نفس مجال الشركات التى يملكها. وهو ما لا يبدو بعيدا عن الشرطيين اللذين يزجيان الضرب بل والقتل لمواطن أيا كانت جريمته فتخرج علينا وزارة الداخلية بما لا يبدو معقولا من تفسير بما يعنى أن المواطن والوطن يعملان فى خدمة الشرطة بدلا من أن تكون الشرطة فى خدمة الوطن والمواطن، أو عمليات تزوير فاضحة فى انتخابات الشورى وكأن القائمين عليها يقولون للشعب كله: «خليك يا شعبى عبيط، وماشى جنب الحيط».

يا دكتور هانى ويا كل عامل على أرض الوطن لخير الوطن أنتم ممسكون بجمرة العلم الملتهبة فلا تدعوها تسقط من أيديكم، «ولا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا».

معتز بالله عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية بجامعتي القاهرة وميشجان، ويدير حاليا وحدة دراسات الإسلام والشرق الأوسط في جامعة ميشجان المركزية في الولايات المتحدة. حصل على ماجستير العلوم السياسية من جامعة القاهرة وماجستير الاقتصاد ودرجة الدكتوراه في العلوم السياسية من الولايات المتحدة. كما عمل في عدد من مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة ومصر، له ثمانية كتب والعديد من المقالات الأكاديمية منشورة باللغتين الإنجليزية والعربية.
التعليقات