مقامات السماء: فنون الابتهال والتلاوة والأذان في مصر المحروسة - ياسر علوي - بوابة الشروق
الأربعاء 15 مايو 2024 2:42 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مقامات السماء: فنون الابتهال والتلاوة والأذان في مصر المحروسة

نشر فى : الجمعة 21 فبراير 2014 - 12:50 م | آخر تحديث : الخميس 10 أبريل 2014 - 6:43 م

1. موعدنا اليوم مع عالم موسيقي كامل، هو البحر الذي نمت منه الموسيقى العربية في القرن العشرين، ولكن صلتنا به ومعرفتنا بكنوزه، تراجعت بشكل حاد في مطلع القرن الحادي والعشرين.

2. فنحن نعرف مثلا أن تجويد القرآن كان المدرسة الأولى التي نهل منها عتاة الملحنين والمغنين في القرن العشرين، ومن هنا تسمية العديد منهم بالمشايخ، حتى بعد أن هجروا الزي الأزهري ومهنهم الأصلية كقراء قرآن أو مبتهلين (سيد درويش، زكريا أحمد، سيد مكاوي)، أو مؤذنين (سلامة حجازي)، ونعرف الجذور الدينية لنشأة فن القدود الحلبية العظيم في سوريا (والذي يستحق عودة منفصلة له في مقال قادم)، ولكن أغلبنا اليوم، في القرن الواحد والعشرين، ليسوا متأكدين بالضبط، ما هو مكمن الثراء الموسيقي، في عالم التلاوة والابتهال والأذان. هذا هو ما سنفعله اليوم، من خلال 3 نماذج، اخترتها كفواتح شهية للقراء للنفاذ إلى هذا العالم الثري.

نعيم الأسمر وتوشيح "أمدح المكمل"

3. نبدأ مع هذا أداء الفنان اللبناني الشاب المقتدر نعيم الأسمر لتوشيح "أمدح المكمل"، من كلمات وألحان أحد أعلام الابتهال الديني في مصر في آخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، الشيخ إسماعيل سكر، مقام نهاوند.

4. الشيخ اسماعيل سكر من جيل الرواد الأفذاذ في القراءة والابتهال، غير أننا نتوقف اليوم مع تجربته الموسيقية الرائدة التي كان درتها هذا التوشيح. التجربة ببساطة تتمثل "ربط" التوشيح بلحن متكامل، بدلا من إطلاقه على سجية المبتهل في صيغة أقرب للموال (وهي الصيغة الأكثر شيوعًا للتواشيح والابتهالات).

5. الكلمات تقليدية من النوع المألوف في التواشيح، تجمع بين بساطة الأفكار، والحرص الشديد على سجع وجرس واضح (شطور الأبيات مقفاة، فالقافية ليست في نهاية الأبيات فقط). أما الإبداع الحقيقي فهو في اللحن وما تضمنه من تجربة جديدة في حينه على التواشيح.

فتحويل التواشيح من صيغة الابتهال الحر على طريقة الموويل إلى صيغة اللحن الغنائي المتكامل، تعني أن المبتهل مضطر لضبط الارتجال (وهو روح الابتهال) ضمن الإطار الزمني الضيق الذي يفرضه إيقاع اللحن (أي أنه مضطر للاكتفاء بقيد الارتجال القصير "ما يعرف بالعرب"، وليس الارتجال المفتوح المجرد من قيود الإيقاع واللحن) وهذا تحد حقيقي للمبتهل غير المعتاد على هذه التجربة.

6. اللحن من مقام النهاوند، مع نقلة لمقام الحجاز من درجة الصول، تليها نقلة لمقام البياتي من درجة الصول أيضا، ثم العودة للنهاوند لنختم اللحن من حيث بدأ. جولة مقامية ثرية تعكس القدرات اللحنية الكبيرة للشيخ إسماعيل سكر، وتقدم للسميعة وجبة طربية دسمة.

7. نأتي للأداء. الفرقة كلها من العازفين الشباب (باستثناء وحيد هو عازف الكمان اللبناني المقتدر أحمد شبو). يبرز هنا بشكل خاص عازف القانون الاستثنائي وضابط اللحن للفرقة، غسان سحاب، سليل البيت الموسيقي الشهير (فهو نجل المؤرخ الموسيقي إلياس سحاب، وابن شقيق المايسترو سليم سحاب، والمؤرخ فكتور سحاب)، بالإضافة إلى أداء الإيقاع الجميل لكل من أحمد الخطيب على الدف وأسامة بعلبكي على الرق.

فالإيقاع، بما أنه تنظيم زمني للنغم وأساس تحول الموال إلى أغنية، يمثل لب الفارق بين هذا التوشيح الغنائي وسائر الابتهالات. (ملحوظة: أسعدني الحظ بحضور هذا الحفل منذ 6 سنوات في بيروت في مسرح دوار الشمس الشهير، وهو مسرح الفنان الكبير روجيه عساف).

8. أما أداء نعيم الأسمر، فحدث عنه ولا حرج، صوت مبدع من خامة تمزج بين عبد الوهاب وكارم محمود، ومعرفة موسيقية عميقة تظهر في سيطرته الكاملة على المقامات والنفس ومخارج اللفظ. نحن لسنا أمام موهبة فطرية، وإنما موهبة ذكية ومثقفة. أوصيكم بالبحث عن تسجيلات هذا الفنان الموهوب على يوتيوب.

الشيخ محمود الشحات: عبقري التلاوة الجديد

9. أما الآن، فننتقل إلى المنبع الذي نهل منه كل فطاحل الموسيقى العربية، وأعني تجويد القرآن الكريم. أقدم لكم هنا قارئا فذا، صوته وتمكنه يجعله يقف على قدم المساواة مع عمالقة القراءة، رغم عمره الذي لم يبلغ الثلاثين. سنستمع اليوم لتسجيلين مختلفين، لآيتين فقط (الآيتين 11-12) من سورة التحريم. هذه هي القراءة الأولى

https://soundcloud.com/engy-5/fylojzxbexp1

وهي قراءة تبدأ من مقام البياتي، مع عرب من مقامات السيكا والعجم والراست. شيء شديد الروعة، خاصة إن أخذنا في الاعتبار أن التسجيل مدته 3 دقائق فقط. صوت مبهر، وخيال موسيقي خصب، ونفس طويل، وإجادة تامة لأحكام التجويد.

10. وجه آخر للروعة في هذا التسجيل يظهر في التجاوب المدهش من المستمعين، الذين يبدو بالفعل أنهم سميعة راسخون. يتضح ذلك تماما من أنهم يصيحون "ألله" كل مرة من نفس المقام وعلى نفس النوتة الموسيقية التي يقف عليها الشيخ، ويغيرون القفلة وراءه عندما يغير المقام أو النوتة التي يقف عليها (ولا أحسن كورس في الدنيا). حالة تجاوب وتوحد مع القارئ لا أعرف لها مثيلا.

11. قراءة القرآن، كما قلنا في مطلع المقال، هي البيت التقليدي الذي نبتت منه الموسيقى العربية في القرن العشرين. وأهم المقرئين يجيدون المقامات إجادة مطلقة، ويعرفون بدقة مناطق قوة كل مقرئ والمقامات التي يجيد منها، من هنا تسمية الشيخ علي محمود مثلا "بملك الكرد"، والشيخ أبو العينين شعيشع "بملك الصبا" وهكذا.

12. نحن هنا أمام قارئ مجيد تماما لأحكام القراءة، وينقل المعنى بشكل واضح عبر تمكنه المذهل من المقامات، بالإضافة إلى جمال صوته. ولعله من المفيد هنا، قطعا للطريق على المتزيدين، أن نتذكر أن كتب السيرة النبوية وكتب التراث بعامة، تروي أن معيار اختيار بلال بن رباح لأداء الأذان كان أنه "أندى الصحابة صوتا" أي أجملهم صوتا، المعيار كان جماليا بحتا، لم يستح منه النبي (ص) في اختيار المؤذن، وإنما اندثر هذا المعيار في أواخر القرن العشرين مع سيطرة الانغلاق الصحراوي، وظهور القراءات غير المعبرة بأنكر الأصوات.

13. ولإظهار قدرات هذا القارئ الشاب العظيم، وجدت له تسجيلا آخر لنفس الأية 12 من سورة التحريم، يؤديه من مقامي الصبا والعجم. الاستماع للتلاوتين لنفس الآية يظهر بوضوح الفروق بين أجواء المقامات المختلفة، والطابع الحزين لمقام الصبا في التلاوة الثانية يظهر بوضوح شديد. وبصراحة لا أعرف طريقة للتعريف بماهية المقامات الموسيقية (من حيث كونها هنا طرقا للأداء باختيار سلم موسيقي معين تؤدى منه التلاوة بغرض نقل حالة وجدانية معينة، وطعم خاص لكل مقام) أفضل من الاستماع لهذه التسجيلات ومقارنتها ببعض للتعرف على الأجواء المختلفة التي يخلقها تغيير المقام.

13. أبشروا بقدوم هذا العملاق الجديد لدنيا التلاوة، وبآفاق جديدة سيفتحها بتلاوته الرائعة، وصوته المذهل، وتمكنه المقامي الرائع وخياله الموسيقي الخصب. فهذا العملاق الجديد، لم يقدم بحكم صغر سنه أجمل ما لديه بعد. أبشروا!

أذان الشيخ علي محمود

14. وقبل أن نختم هذا المقال، أقدم لكم هذا التسجيل الرائع للشيخ علي محمود، يرفع فيه الأذان من مقام البياتي.

http://www.youtube.com/watch?v=TKe81Nhc82s

15. الشيخ علي محمود ولد في أواخر القرن التاسع عشر (1878) وتوفي قبل منتصف القرن العشرين (1946). من زاوية السياق الموسيقي، يعني ذلك أن الشيخ عاش مرحلة التحول من التطريب المرتكز حول ذاته والمنبت الصلة بالكلمات المؤداة (والتي بلغت قمتها في أدوار محمد عثمان، ذات الكلمات شديدة البساطة، والألحان شديدة التركيب)، إلى تهذيب التطريب بالتعبير اعتبارا من مطلع القرن العشرين (وهو ما انعكس بشكل أوضح على معاصري الشيخ من الموسيقيين، أقصد تحديدا سيد درويش وزكريا أحمد). ما قيمة هذا السياق؟

16. قيمته أنه انعكس في هذا الأداء العظيم للشيخ على محمود، الذي لا يعكس فقط خبرة عميقة بمقامات الموسيقى المختلفة وسبل الانتقال بينها، وإنما يعكس أيضا حساسية شديدة لما يمكن تسميته "بالبناء أو المنطق الدرامي للأذان"، والذي يتكون كما هو معروف من التكبير أولا (كوسيلة للتنبيه بحلول وقت الصلاة والإعلان عن بدء الأذان)، ثم الإعلان عن العقيدة (من خلال التشهد)، ويلي ذلك ذكر المطلوب أو الغرض من الأذان (شطري النداء على الصلاة والفلاح)، ثم يتم الختام بتكرار التكبير وذكر النصف الأول من التشهد (لا إله إلا الله). كيف عكس الشيخ علي محمود هذا المنطق؟

17. انعكس ذلك في ما يمكن تسميته بأداء هرمي للأذان يتناسب مع هذا المنطق. هكذا، يبدأ الشيخ علي محمود بالتكبير من مقام البياتي، ثم يبدأ العرب اعتبارا من شطرتي التشهد لتبلغ الذروة مع شطرتي النداء (حي على الصلاة وحي على الفلاح). نحن نمر هنا، في تسجيل مدته دقيقتين ونصف، على مقامات الكرد والنهاوند ونلمس الراست قبل أن يعود الشيخ علي محمود إلى حيث بدأ ويختتم الأذان بالتكبير ونصف التشهد من مقام البياتي. بناء موسيقي رائع ويتطابق مع البناء المنطقي للأذان، ليوصل المعنى للمستمعين بأدق وأجمل طريقة.

18. كان أذان الشيخ علي محمود حدثا بذاته، وكان مشهورا بقدرته على أداء الأذان بشكل متجدد الروعة من مختلف المقامات حسب حالته الوجدانية والمزاجية كل يوم. وسيتذكر بعض القراء الإشارات المتكررة في روايات نجيب محفوظ عن فترة ما بين الحربين العالميتين (أقصد بالذات قصر الشوق، السكرية، بعض فصول المرايا) حول ذهاب بعض شخصيات الروايات الأساسيين للحسين للسهر "والاستماع لأذان الشيخ علي محمود".

أظن أن الاستماع لهذا التسجيل يعطينا ولو إجابة مبدئية لسؤال: لماذا كان الاستماع لأذان الشيخ علي محمود تجربة فريدة وغاية تستحق أن تذهب هذه الشخصيات للسهر في الحسين لأجلها؟ كما أنه يعطينا فكرة واضحة، عند مقارنته بالأذان المستورد الذي طغى على أحياء القاهرة البرجوازية (المهندسين مثلا)، عن حجم الجريمة التي ترتكب في حق فن التلاوة والأذان. بذمتكم وعينيكم وعافيتكم، أي الأذانين أقدر على نقل المعنى والحالة الوجدانية المطلوبة؟

عموما.. استمتعوا وتسلطنوا.. ولتكن جمعة مباركة لكم ولأحبائكم. موعدنا الأسبوع المقبل.

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات