زعيم من مصر - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 10:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

زعيم من مصر

نشر فى : الخميس 22 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 22 مارس 2012 - 8:00 ص

كأنما كان الرجل على موعد مع قدر مصر وشعبها، فقد تزامنت حياته على نحو لافت مع منعطفات رئيسة فى تاريخ مصر. وُلد فى قرية «سلام» بمركز أسيوط فى السنة التى شهدت مولد دستور 1923، وانتخب بابا للإسكندرية وبطريرك للكرازة المرقسية فى عام1971 ومصر كلها تشهد مرحلة تحول عقب وفاة الرئيس عبد الناصر وولاية الرئيس السادات، وكانت له ــ أى لفقيد مصر وشعبها ــ مواقف بعضها دفاعا عن الجماعة القبطية المصرية، وأكثرها حماية لمصالح الوطن، ثم ها هو يغادر دنيانا فى واحدة من أدق مراحل تاريخ مصر المعاصر.

 

جمع «نظير جيد روفائيل» بين دراسة التاريخ فى المرحلة الجامعية الأولى، والعمل فى الصحافة فى مجلات الأحد، والالتحاق بكلية الضباط الاحتياط التى سئل يوما بعد أن أصبح مسئولا روحيا عن أقباط مصر عما إذا كان جنديا فى خدمة الوطن فأجاب وهو يبتسم «نعم كنت جنديا ولا أزال جنديا فى جيش الأمة والوطن العربى الكبير». ناهيك عن ثقافته العربية والإسلامية الرفيعة. كمواطن مصرى تعيش عبارته الخالدة فى وجدان جميع المصريين: «مصر ليست وطنا نعيش فيه، وإنما هى وطن يعيش فينا». ومع أنه كرس جانبا يعتد به من وقته للدفاع عن أقباط مصر ضد «التهميش» كما كان يسميه إلا أنه فى دفاعه هذا لم يغب عنه أبدا أن أقباط مصر جزء أصيل من نسيجها الوطنى، فرفض دوما تكييف وضعهم باعتبارهم أقلية، واعترض على أن يكون هناك حزب سياسى قبطى، لأن الحزب السياسى وفقا له يجب أن يخدم المجتمع بأكمله وليس مجرد مجموعة منه، وبالمنطق السليم نفسه الذى نظر به إلى الأقباط باعتبارهم مصريين وحسب فإنه رفض أيضا أية دعاوى للتدخل الخارجى بحجة حماية الأقباط، بل لقد كان يعترض على الشطط الذى يذهب إليه بعض كنائس المهجر أحيانا.

 

●●●

 

أما باعتباره عربيا فقد كان سجل البابا الراحل مشهودا بحق، إذ إنه اتخذ موقفا شديد الحصافة تجاه الصراع العربى ــ الإسرائيلى، وقد قيل إن السادات بعد عقد المعاهدة مع إسرائيل أرسل يدعوه لإعداد وفود قبطية لزيارة القدس، غير أن البابا الراحل رفض وقال إنه لا يرى الوقت ملائما لهذه الخطوة، لكن المؤكد أن موقفه المعلن تجاه القدس قد تمثل فى «إننا لن ندخل القدس إلا وأيدينا فى أيدى إخوتنا المسلمين، ولن ندخل القدس وهى محتلة، ولا نطبع العلاقات مع إسرائيل فى ظل الاحتلال»، وقد ثابر البابا على موقفه هذا على الرغم من ضغوط حقيقية مارسها عليه نفر من أقباط مصر كى يغيره، وحتى البابا نفسه من المؤكد أنه انتقل إلى رحاب الله وروحه تهفو إلى القدس ومقدساتها لولا أنه غلَّبَ الصالح العام على صالحه الشخصى. وقد رفع هذا الموقف من منزلته بين العرب والمسلمين أكثر وأكثر، وعلى الصعيد العربى بالذات بلغت الحماسة لموقفه هذا حدا غير مسبوق، ولم يكن المرء يشارك فى مؤتمر عربى عن الصراع العربى ــ الإسرائيلى إلا وكان الراحل الكريم ومواقفه فى هذا الصدد هو الغائب الحاضر، حتى كان البعض ينادى عادة بأن تتخذ مواقف البابا شنودة هاديا للمواقف العربية، وكم من مؤتمرات أصر المشاركون فيها على أن يذكر البابا شنودة بالاسم مقرونا بصفات التوقير اللازم فى البيانات الصادرة عن تلك المؤتمرات. ولست أخجل إذ أقول إننى كم تمنيت فى هذا السياق أن يتمتع بعض من تولوا مناصب دينية إسلامية رفيعة فى ذلك الوقت بجزء يسير من استقلاله بدلا من الاستعداد الدائم للاستجابة لما يطلبه الحاكم من مواقف.

 

 غير أننى أود أن أضيف باعتبارى محللا سياسيا أن البابا شنودة أظهر حنكة سياسية رفيعة تفوق بها على معاصرْيَه من حكام مصر. أما السادات فقد سبقت الإشارة إلى موقف البابا من النهج الذى اتبعه فى النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى تجاه الصراع العربى ــ الإسرائيلى، وهو موقف يدل على رؤية سياسية ثاقبة، ناهيك عن أبعاده الوطنية والقومية، وأما مبارك فيكفى أن أشير إلى ما كشفه دكتور مصطفى الفقى فى حديث نشرته صحيفة الأهرام فى عددها الصادر فى العشرين من الشهر الجارى من أن البابا شنودة رفض عرض الرئيس السابق بأن يكون «عيد القيامة» إجازة رسمية لكل المصريين، وكان مبرر البابا فى هذا أن المصريين يتفقون على ميلاد السيد المسيح، لكنهم يختلفون حول قيامته، ومن الواضح أنه بحنكته السياسية لم يكن يريد لهذا العيد أن يصبح مصدر خلاف وشقاق بين مسلمى مصر وأقباطها، وظنى أن رجلا بهذا الحس السياسى ــ ناهيك عن صفاته الكارزمية ــ كان خليقا بأن يكون لولا دوره الروحى زعيما سياسيا من زعماء المصريين. اعتُبر بعض مواقفه متشددا، والحق أنه كان يدافع عن الجماعة القبطية المصرية ضد «التهميش» كما كان يسميه، بالإضافة إلى أننا يجب ألا نغفل عن أن عهد السادات الذى ظهر فيه كثير من هذه المواقف المتشددة كان عقدا يموج بالعصبية والتوتر بالنسبة لكل المصريين وليس لأقباطهم فحسب. 

 

●●●

 

 لكل ما سبق وغيره الكثير كان ثمة إجماع وطنى مصرى على الشعور بالصدمة لوفاة البابا، وقال الجميع بحقه كلمات واجبة بدءا بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة ومرورا بمؤسسات المجتمع المدنى فى مصر وانتهاء بمجلس الشعب الذى يكتسب موقفه أهمية خاصة، باعتباره حتى الآن هو المؤسسة السياسية الوحيدة المنتخبة فى مصر، بالإضافة إلى سيطرة «الإخوان المسلمين» عليه، إذ اقتربوا فيه من وضع الأغلبية المطلقة، وقد وقف مجلس الشعب دقيقة حداد تحية لروح الراحل الكريم، بالإضافة إلى ما ذكره رئيس المجلس المنتمى إلى الإخوان بقوله: «كان داعيا من دعاة الوحدة الوطنية، وله مواقفه المشهودة فى صد الفتن عن الوطن»، وأنه «سيترك لنا فراغا فى لحظة فارقة يُعاد فيها ترتيب أوراق الوطن».

 

ولعل هذه الكلمات تكون فاتحة خير فى وقت يحتاج الوطن فيه إلى حكمة الحكماء وإخلاص المخلصين، ولعل فى هذا أيضا ما يمثل ردا بليغا على الغربان وأصواتها النشاذ التى أضافت بقعة لا لزوم لها على ثوب الوطن الذى ارتدى كله ثوب الحداد على الراحل الكريم. وإن هذا لا يجب أن يحرفنا عن أن ثمة تغييرا ثقافيا حقيقيا مطلوبا نواجه به جميعا دعاة الفتنة والتعصب الممجوج الذى لا يجد له أى سند فى دين أو ملة، ناهيك عن أن يدعى أصحابه صلة بين ما ينعقون به وبين الإسلام الذى نفهمه جميعا دينا سمحا لا مكان فيه لهذه المواقف.

 

 حملت أصوات أصدقائى من الأقباط وأنا أعزى نفسى وأعزيهم فى رحيل البابا نغمة حزن نبيل، وعلامات قلق على المستقبل فى آن واحد، وتألمت كثيرا لما قاله شاب قبطى أمام مبنى الكاتدرائية بعد إعلان وفاة البابا: «إحنا هنتبهدل بعده قوى». وأقول لهذا الشاب المكلوم: يا رفيق الوطن لا تخش شيئا، ولو أصاب قبطيا واحدا مكروه بعد رحيل البابا فثق معى أن «البهدلة» سوف تطول الجميع، وسوف نتصدى لها معا كأننا بنيان مرصوص.

 

 ظل البابا مقاتلا حتى أيامه الأخيرة شاعرا بمسئوليته الروحية على الرغم من اشتداد المرض عليه، فكان آخر ظهور له يوم الأربعاء قبل الماضى فى عظة لم تستغرق أكثر من عشر دقائق، بل لعله قد أصر على أن يواصل قتاله مع بنى وطنه المصريين بالرسالة الفريدة التى كتبها بنفسه قبل وفاته، وأوصى بأن تقرأ فى مراسم تشييعه إلى مثواه الأخير، ولعله كان بهذا يستشعر عظم المسئوليات الملقاة على عاتق أبناء الوطن فى هذه الظروف الراهنة.

 

●●●

 

اختار البابا شنودة دير الأنبا بيشوى كى يدفن فيه، وهو ذلك الدير الذى يحمل له ذكرى أحداث فارقة فى حياته، وأهمها انتخابه بابا للإسكندرية والكرازة المرقسية، وثانيها إقامته الجبرية فيه بعد أن ألغى السادات القرار الجمهورى بالتصديق على انتخابه، وشكل لجنة لإدارة شئون الكنيسة، وقد سمى البابا شنودة إقامته الجبرية تلك بأنها «عودة إلى الفردوس»، وفى دير الأنبا بيشوى علَّمَ وزرع الصحراء وكتب العديد من مؤلفاته ليكون بذلك مثالا للراهب المسيحى.

 

فى قصيدته بعنوان «ترنيمة غريب» يقول البابا الراحل:

 

غريبا عشت فى الدنيا                                  نزيلا مثل آبائى

 

غريبا فى أساليبى                                      وأفكارى وأهوائى

 

غريبا لم أجد سمعا                                      أفرغ فيه آرائى

 

●●●

 

أبدا لم تكن غريبا منذ ولدت فى هذا الوطن وبدأت مسيرتك الروحية زعيما لأقباط مصر أولا ثم زعيما من زعماء الوطن ثانيا. أبدا لم تكن غريبا وأبدا لن تكون.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية