الصين.. مجتمعٌ يزدهرُ باعتدال - نبيل مرقس - بوابة الشروق
الأربعاء 15 مايو 2024 7:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصين.. مجتمعٌ يزدهرُ باعتدال

نشر فى : الإثنين 21 نوفمبر 2022 - 6:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 22 نوفمبر 2022 - 10:10 م

«سأل فان تشى ما الإحسان. قال كونفوشيوس: محبة الآخرين».
(من تعاليم كونفوشيوس، يان يوان)

«سوف تواجه «الاشتراكية الصينية» فى القرن الحادى والعشرين حيث تقف عند نقطة انطلاق تاريخية جديدة، معضلة التعايش مع التقاليد الفلسفية لكلٍ من كونفوشيوس وماو تسى دونج ودينج شياو بنج. ومن أجل تحقيق المزيد من الابتكار والتطور للماركسية ذات الطابع الصينى، يبدو من الضرورى القيام بالربط الحكيم بين المنافع والخسائر لهذه التقاليد التاريخية الثلاثة».
(الاشتراكية الصينية فى القرن الحادى والعشرين، ستة علماء صينيين متخصصين فى السياسة والإدارة والاقتصاد والاجتماع وبحوث التنمية، ترجمة أمنية شكرى ونبيلة أسامة، بيت الحكمة 2021).
• • •
يصف ستيفن ديركون ــ الباحث التنموى المرموق وأستاذ السياسة الاقتصادية بجامعة أكسفورد البريطانية والمستشار السابق لهيئة التنمية الدولية البريطانية DFID فى مقدمة كتابه المهم «الذين آثروا الرهان على التنمية»، ملامح المعجزة التنموية الصينية ــ التى جعلت ناتجها المحلى الإجمالى يقفز عشرين ضعفا فى الفترة ما بين عامى 1979 و2019، والتى رفعت معدل النمو الاقتصادى السنوى من 2.8 فى المائة عام 1979 إلى 8.5 فى المائة لأربعة عقود متتالية ــ بهذه الكلمات: «... فى أعوام الثمانينيات من القرن الماضى، كانت الصين هى الدولة التى يقطنها عددٌ هائلٌ ممن يعيشون فى حرمانٍ مدقع. كان هناك أكثر من سبعمائة مليون صينى يرزحون تحت مستوياتٍ من الدخل والاستهلاك يمكن وصفها بدقة بأنها تمثل أشد درجات الفقر الإنسانى. وفى الوقت الذى كنت أسافر فيه عبر الأراضى الصينية مستكشفا أعماق التجربة التنموية لدولة الصين فى نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، كان هناك من حولى ما يزيد على نصف بليون صينى قد بعثوا ثانية من معاناتهم التاريخية الطويلة إلى مرتبة العيش الإنسانى الكريم» (ستيفن ديركون، الذين آثروا الرهان على التنمية، دار هيرست للنشر، لندن 2022، ص ix). ويقدم لنا ديركون فى كتابه المذكور نموذجا تفسيريا جديدا يحاول أن يشرح كيفية صعود «الاقتصادات الناشئة» وتحقيقها للطفرة التنموية اللازمة لانتقالها من وهدة التخلف إلى مصاف الدول المتقدمة. وهو يقدم هذا النموذج التفسيرى تحت عنوان «الصفقة التنموية». وهى صفقة سياسية ومجتمعية تعبر عن شكل محدد من أشكال التوافق الاستراتيجى بعيد المدى بين أعضاء النخب الاقتصادية والسياسية والثقافية والمجتمعية المهيمنة على صنع القرار فى البلد المعنى (قيادات سياسية، مؤسسة عسكرية، رجال أعمال، قيادات نقابية، نخب ثقافية، خبراء أكاديميون، قيادات مجتمع مدنى، ممثلو القطاع الاقتصادى غير الرسمى و«غير المرئى») حول أهمية تفعيل رؤية استراتيجية ذات مدى زمنى طويل للتنمية الوطنية المستقلة التى تهتم بتحقيق التقدم وإزالة وصمة الفقر المدقع بغض النظر عن الخلاف المحتمل حول السياسات التنموية الواجب اتباعها. وهى تتضمن بالضرورة القدرة على ضمان استمرارية الالتزام التنموى بعيد المدى حتى مع تغير النخبة الحاكمة، مع توافر «بيروقراطية تنموية» تمتلك من الأدوات التنفيذية والمهارات التقنية ما يجعلها قادرة على تحويل الرؤية التنموية النظرية إلى واقعٍ مكتمل بالاعتماد المتناسق على آليات السوق إلى جانب الأدوات التخطيطية للدولة (دون التورط فى خططٍ طموحة تتجاوز قدرة الدولة الفعلية على الإنجاز). وذلك بالإضافة إلى القدرة المستدامة لهذه البيروقراطية على التعلم من الأخطاء، والشجاعة فى اتخاذ قرار تغيير المسار عندما يصبح ذلك ضروريا باستخدام ما هو متاح فى إطار النظام السياسى القائم من آليات للمساءلة الديمقراطية والانضباط الحزبى وتصحيح الهياكل البيروقراطية.
• • •
كانت مقولة دينج شياو بنج الشهيرة عن المفاضلة بين لون القط وكفاءته فى اصطياد الفئران، تمثل حسما واعيا للصراع الدائر فى الصين وقتها ــ بعد وفاة الزعيم ماو تسى دونج عام 1976ــ بين النخب السياسية والاقتصادية والحزبية بقيادة أرملة ماو التى تحبذ إعلاء قيمة «النقاء الإيديولوجى» المستندة إلى شعارات الثورة الثقافية الصينية (1966ــ 1976)، وبين النخب الجديدة بزعامة دينج شياو بنج التى تحبذ إعلاء قيمة «الإنجاز الاقتصادى» والرهان على الكفاءة المهنية بديلا عن الاهتمام الزائد بسمات اللون الايديولوجى. وهو تأكيدٌ حاسم لرهان النخبة السياسية/الاقتصادية الجديدة على قضايا التقدم والنمو والتحديث متحررين من هواجس "التطهير الايديولوجي" التي حكمت ممارسات الثورة الثقافية الصينية في عصر ماو. وهو أيضا اذكاءٌ للوعي المجتمعي بنهج "اقتصاد السوق ذا الطابع الاشتراكي" الجديد الذي يسمح للصين بالانفتاح على أدوات الإصلاح الاقتصادى المستدعاة من النموذج الاقتصادى الرأسمالى الغربى من أجل تحقيق جوهر الاشتراكية كما يراه دينج وهو: «تحرير القوى الإنتاجية وتطويرها، والقضاء على الاستغلال، وتجاوز الاستقطاب الايديولوجى، وأخيرا التوصل إلى تحقيق الرخاء المشترك لكل الصينيين» (من كتاب «الاشتراكية الصينية فى القرن الحادى والعشرين»، ص 265). وكان حسم ذلك الصراع على السلطة بين الفريقين المتنازعين لصالح دينج شياو بنج ونهجه «الليبرالى»، هو المقدمة التاريخية للصفقة التنموية الصينية. وهى التى تجسدت فى اقتراح دينج فى ديسمبر 1979 إقامة «المجتمع المزدهر باعتدال»، حيث قام دينج بتضمين هذا المفهوم الجديد فى مبادئ التحديث الأربعة Four Modernizations التى أعلن عنها لتشمل مجالات الزراعة والصناعة والقدرات العسكرية والعلم والتكنولوجيا.

ويرى مؤلفو كتاب «الاشتراكية الصينية فى القرن الحادى والعشرين» أن التعاليم الأخلاقية الثلاث (الكونفوشيوسية والبوذية والطاوية) التى تشكل الهيكل الرئيس للتقاليد الثقافية الصينية، تحتوى فى جوهرها على معنى «المساواة» بين جميع الكائنات الحية، وعلى «الوعى» بالعلاقة المتساوية بين الذات والآخرين. وأن ذلك هو السبب الداخلى الذى دفع عموم الصينيين ــ من عامة الناس إلى طليعة المثقفين ــ إلى قبول المفاهيم الاشتراكية الماركسية حيث تطابقت إلى حدٍ كبيرٍ مع القيم الأساسية المتأصلة فى التقاليد الثقافية الصينية. ويتفق مؤلفو الكتاب مع دينج شياو بنج فى فهمه أن «الاشتراكية» ليست نموذجا ثابتا بل هى «عملية تاريخية» لها اتجاهات ومبادئ واضحة، لكن التجسيد الملموس لها سوف يتغير بالحتم مع التغير فى خصائص العصر. وهو ما دعا دينج إلى تبنى نهج الإصلاح الاقتصادى والانفتاح على النموذج الرأسمالى الغربى من أجل «إنجاز» التحديثات الأربعة دون التخلى عن «فضيلة» التمسك بمجتمع «المصير المشترك» حيث التعايش طويل الأمد والتشارك فى السراء والضراء. ويمثل مفهوم «المجتمع المزدهر باعتدال» Xiaokang ذروة الإبداع الصينى فى مزج القيم الحضارية الكونفوشيوسية مع نموذج «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية». فهو مفهوم ثقافى يرتبط فى الأصل بالتقاليد الكونفوشيوسية ويقوم على إحياء الدور التاريخى للطبقة الوسطى الصينية. وقد طرحه دينج شياو بينج عام 1979 ليستند إليه فى إطلاق برنامج التحديثات الأربعة، وليكتسب شرعية جديدة تستند إلى التقاليد الحضارية الصينية فى مواجهة من يتهمونه بالخروج على الخط الماوى المتشدد فى مرحلة الثورة الثقافية الصينية. وهو يعبر عن مجتمع «مزدهر» يحيا فيه كل الناس فى دعةٍ من العيش، مجتمع يؤمن بالمساواة التى تعترف بالاختلاف وتقبل بالتعايش الإيجابى بين «الاعتيادى» و«المميز». وهو مجتمع يسعى إلى تحقيق التوازن بين أهداف النمو الاقتصادى ومبادئ المساواة الاجتماعية والتوازن البيئى. وهو مجتمع لا يخشى من تبنى أدوات الإدارة الحديثة المستخدمة فى المجتمعات الرأسمالية الغربية المحكومة باقتصاد السوق. وهو مجتمع يسمح بالمبادرات الإبداعية على مستوى القواعد الشعبية مثل مبادرة قرية خهشتاى فى يناير 1980 لانتخاب أول لجنة قروية تستخدم قوانين القرية واللوائح المدنية لتنفيذ الحكم الذاتى للقرويين. وقد أصبحت هذه المبادرة الشعبية التلقائية أساسا لتوجه الدولة والحزب نحو بناء المنظمات القاعدية الريفية فى الصين. وأصدرت اللجنة الدائمة للمجلس الوطنى لنواب الشعب الصينى فى عام 1987 «نسخة تجريبية» من «القانون الأساسى للجان القرويين فى جمهورية الصين الشعبية» لتقنين الدروس المستفادة من هذه التجربة الشعبية، ولتصبح أساسا للنسخة النهائية من هذا القانون فى عام 1988 (من كتاب «الاشتراكية الصينية فى القرن الحادى والعشرين»، ص 134). وقد أعاد الرئيس الصينى هو جينتاو استخدام تعبير «المجتمع المزدهر باعتدال» فى الفترة ما بين 2003 و2013 فى الإشارة إلى السياسات الاقتصادية الصينية التى تسعى إلى تحقيق مزيد من التوزيع العادل للثروة فى المجتمع الصينى الحديث. بينما قام الرئيس الحالى شى جين بينج باستخدام تعبير «الحلم الصينى»، وأطلق فى عام 2015 شعار «الشموليات الأربع» ضَمَّنَها الهدف الاستراتيجى (بناءٌ شامل للمجتمع المزدهر باعتدال).
• • •
وما زالت الصين وشعبها العظيم يسعيان إلى تحقيق أحلامهما القديمة التى داعبتهما منذ عصر الفيلسوف كونفوشيوس، ودعتهما تحت قيادة ماو تسى دونج إلى إنجاز المسيرة الطويلة Long March والانخراط فى الثورة الثقافية بكل تبعاتها وتكاليفها. وهما بعد أربعة عقودٍ من تحديثات دينج شياو بنج الجسورة، يتطلعون فى رجاءٍ وثقة وتواضعٍ حكيم إلى «مجتمعٍ يزدهرُ باعتدال».

نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات