«سر العنبر».. أبواب الذاكرة والحكايات الساحرة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«سر العنبر».. أبواب الذاكرة والحكايات الساحرة

نشر فى : السبت 22 يناير 2022 - 9:00 م | آخر تحديث : السبت 22 يناير 2022 - 9:00 م

 

هذه رواية فاتنة حقا، تلعب مع بطلتها مثلما تلعب مع قارئها، تجعل من فكرة الذاكرة محورا أساسيا، وتستردها من خلال الحكايات المتتالية والساحرة، ومن خلال رائحة العطور والأماكن، إنها رواية عن الذاكرة باعتبارها مزيجا معقدا، تماما كرائحة العطور الثمينة.
«سر العنبر» لمؤلفتها مى خالد، والصادرة عن دار العربى، تمتلك أيضا أسرارها المتناثرة بين السطور، ولا تبوح بها إلا فى الفصل الأخير، بعد أن تخوض الرحلة كاملة عبر قصص متتالية ومتداخلة، وكأنها لعبة بازل ينقصها جزء أخير يستكمل الصورة، يحضر فتستوى اللوحة أمامنا بألوانها وروائحها، وتتجلى الذاكرة مقاومة للنسيان، ومؤرخة للعائلة، وللصديقات، ولساكنات العمارة، وللأبنية المندثرة، وللعطور التى ذهبت، ولم تبق إلا زجاجاتها الفارغة، وإلا أثرها العابر للأجيال.
ربما يكون هذا النص من أكثر نصوص مى نضجا وطموحا، بعد نصوص مهمة ومميزة للغاية، جعلتها من أبرز أصوات كاتبات الرواية المصريات.
صاحبة «مقعد أخير فى قاعة إيوارت»، و«سحر التركواز»، و«تانجو وموال»، و«جيمنازيوم»، و«تمار»، كانت دوما حكاءة بارعة، لديها شخصيات وتفصيلات آسرة، ولكنها لا تتعامل فقط مع الواقع، وإنما تبحث عن الجوانب الروحية فى الأشياء والأشخاص، تحكى عن العطور، ولكنها تتحدث أيضا عن روح العطر، وارتباطه بالشخصية التى تستدعيها، والحكايات لديها أهم بكثير من بساطتها الظاهرية، بل إنها تصدر روايتها بعبارة للجُنيد يقول فيها: «الحكايات جند من جنود الله يقوى بها قلوب المريدين»؛ أى أنها علاج ودواء وفعل مقاومة، وهى وسيلة استرداد المعنى والهوية، والرواية بأكملها تحية لفن الحكى أيضا.
رحلة بطلتنا شاليمار مُريس يزيد (أو ميرا كما ينادونها)، فى قلب ذكرياتها، ووسط أجواء عزلة كورونا، والتعافى من آثار حادثة سيارة، ليست إلا الحيلة التى ستفتح الصناديق والأسرار، نصحها الطبيب بأن تقاوم تأثر ذاكرتها بمراجعة الصور، وبأن يحدثها الآخرون عن ذكرياتهم، فانفتحت كل الأبواب، وقررت أن تكتب فيلما تسجيليا عن سكان عمارتها، وأن تستعيد مشروعا لصديقها وجارها رمزى، مرمم الآثار، عن سكان وكالة العنبرية الأثرية، التى أزالتها الجرافات، وكانت الوكالة فى الماضى مكان بيع العطور والتوابل فى زمن المماليك.
شاليمار، شخصية ثرية ومتعددة الاهتمامات، درست علم الإنسان، وعملت مترجمة وممثلة دوبلاج، ليس لديها الآن إلا أن تتذكر وتحكى مثل شهر زاد معاصرة، سواء عن عائلتها، أو عن سكان العمارة، أو عن وكالة العنبرية التى امتلك جدها مخزنا فيها، وليس لديها، فى زمن الكورونا، سوى أن تتبادل الحوار الإلكترونى مع ابنتها فريدة، المغتربة فى أيرلندا، لدراسة فنون الطبخ.
لكن شاليمار تمتلك جانبا روحانيا عجيبا، يتمثل فى قرينتها نور التى خرجت من لوحة معلقة فى بيت جدتها، والتى قادت شاليمار فى رحلة فى زمن المماليك، حيث تحول سجن كبير إلى وكالة عظمى للعطور والتوابل، نور هى الذاكرة الروحية للأشياء وللتاريخ المفقود، وشاليمار، واسمها على اسم عطر، تستعيد عبر العطور وزجاجاتها، الشخصيات والأحداث والتفاصيل، فتعيد بناء الماضى كله وتبعثه كروح وكحكايات، ورثت حبَ العطور والتوابل عن أسرتها، وتحديدا عن جدتها ريحانة، وأحد أجدادها كان لديه دكانة للعطارة، وزجاجات العطور الفارغة ليست فى حقيقتها سوى حكايات ناقصة، وأسرار يجب معرفتها.
هنا بناء ذكى يجعل من الرائحة، ومن قرينة مستدعاة، ومن قصص العمارة العتيقة، ومن حكايات وكالة أثرية هدمت، معادلا فنيا متعدد الأوجه للذاكرة المستعادة، فتصبح الحكايات مفاتيح للأبواب، وعندها فقط تستعيد شاليمار كل التفاصيل.
يؤدى العنبر بالذات دلالة بديعة فى الرواية، سواء فى قصة الجدة ريحانة، وحبيبها العطار المسيحى موريس، والذى حمل والد شاليمار اسمه، أو فى الفصل الأخير من الرواية، الذى يصل بالقارئ وبشاليمار إلى أصل الحكاية، العنبر هو الذى يعطى للعطور تماسكها، رغم أنه عطر ضعيف، وبينما تحكى شاليمار عن رمزى، وعن صديقتها رويدا، وعن الجدة والأم، وعن سكان العمارة، بل إنها تحكى عن أم أوباما زوجة البواب، وعن سائق الأسرة وزوجته، فإن شخصية كارا، صديقة شاليمار، هى التى ستكمل القطعة الناقصة فى الحكاية كلها.
كلما توغلنا فى النص، رأينا جزءا من الذاكرة بمستويات مختلفة: ذاكرة شاليمار الخاصة، وقصة حبها الأولى، ثم زواجها وإنجابها، وذاكرة العمارة والصديقات والجيران، ثم ذاكرة الوكالة الأثرية المندثرة، ومحاولات رمزى المغترب، أن ينقذ ما تبقى من ذاكرة التاريخ، فهناك 18 وكالة أخرى فى بولاق، يجب إنقاذها من مصير الهدم، الذى تعرضت له وكالة العنبرية.
إذا كانت الوكالة قد هدمت، ربما لعدم الوعى بالذاكرة، فإن ذاكرة شاليمار، وذاكرة العمارة، وذاكرة العطور، وذاكرة العائلة، وشخصياتها، قد نجت بالكتابة، وبمشروع عمل فيلم تسجيلى، وبينما تدخل شاليمار حجرة الخزين، فتجد الأشياء والزجاجات باقية، فإنها ستدرك أهمية خزانة الذاكرة والمعرفة والوعى بالتاريخ، وستكتشف أنها ساهمت، دون أن تدرى، فى تسليم مخزن أسرتها فى وكالة العنبرية، إلى جرافات الهدم والإزالة.
ستتعلم شاليمار من العطور أن الطبيعة البشرية مركبة ومعقدة مثلها: العطور تستخرج أحيانا من أشياء غريبة جدا، وتضاف إليها أشياء أغرب، العنبر يخرج من فضلات الحوت، والمسك يخرج من الغزال، وحكايات شاليمار، بل واسمها الثلاثى الغريب: شاليمار مُريس يزيد، وحكايات الأسرة، كلها قصص تبرز تعقيد الحياة والبشر، تماما مثل تعقيد وتركيب العطور.
الجدة أحبت شابا مسيحيا، وحاتم حبيب شاليمار اتهم فى قضية جاسوسية، وكارا تحمل أسرار الحكاية، ومراقبة فيديوهات الأم لا يعنى أنها ما زالت حية، ورمزى يعرف الكثير عن ترميم الآثار، ولكنه لا يعرف شيئا عن مشاعر من أحبته فى صمت.
من العطر إلى الوكالة، ومن العائلة إلى العمارة، لسنا إلا ذاكرة، علينا أن نستعيدها ونكتشفها ونعرفها؛ لأن:
«من ذاق عرف،
ومن عرف اغترف،
ومن اغترف اعترف».

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات