علينا أن نعترف بأن هناك صدمة حقيقية بين قطاعات واسعة من الرأى العام المصرى، بعد تصريحات السفير سامح شكرى وزير الخاجية يوم الأربعاء الماضى. ولا يهم كثيرا هل هذه الصدمة مبررة أم لا.
شكرى أجرى حوارا مع الزميل نشأت الديهى فى قناة تن، قال فيه تعليقا على المخاوف المصرية من تنفيذ إثيوبيا للملء الثانى لسد النهضة من دون اتفاق قانونى وملزم مع كل من مصر والسودان: «لابد أن نطمئن جميعا لأن لنا رصيدا من الأمان المتوفر فى خزان السد العالى، ولدينا ثقة أن الملء الثانى لسد النهضة، لن يكون مؤثرا على المصالح المصرية، ونستطيع التعامل معه من خلال الإجراءات المحكمة فى إدارة مواردنا المائية».
عقب نشر هذه التصريحات التى تمت فى باريس على هامش زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى لفرنسا، أصيب العديد من المصريين بالإحباط، وقد قابلت شخصيا نماذج متعددة من هؤلاء.
أعرف بحكم عملى أن مصر لن تتنازل فعلا عن أى قطرة ماء من حصتها، وإذا حدث ذلك، فإنها ستتحرك دفاعا عن هذه الحقوق، لكن ذلك لم يصل بصورة واضحة وجيدة للرأى العام.
شخصيا لم أتفاجأ بتصريحات الوزير شكرى، حيث إننى قابلته ضمن مجموعة من الكتاب والصحفيين قبل أسابيع فى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ويومها قال بوضوح أن مصر ستتحرك إذا وقع عليها ضرر لا يمكن تحمله فى حصتها المائية.
وأذكر أننى بعدها كتبت مقالا مضمونه: «ومن يحدد حجم الضرر؟!»، كان جوهره أنه فى هذه الحالة فإن إثيوبيا ستحرص فى الشهور القليلة المقبلة على عدم الإضرار بحصتنا المائية فى الملء الثانى أو حتى الثالث أو حتى لسنوات قليلة قادمة، وأن المشكلة ليست فى ملء السد، خصوصا أن مصر وافقت على فكرة بنائه، حينما وقعت اتفاق المبادئ عام ٢٠٢٥.
لكن المشكلة الحقيقية هى أن يتحول السد لاحقا إلى محبس لابتزاز مصر، بل وربما بيع الحياة لها مما يؤثر على حياة المصريين ويحول إثيوبيا إلى قوة إقليمية مهيمنة.
حينما قال شكرى هذه التصريحات، أدرك كل المتابعين للملف أن مصر لن تتحرك على الأرض تجاه السد إلا إذا وقع عليها ضرر ملموس.
بعدها بأيام تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسى فى قناة السويس، وقال ردا على سؤال للإعلامى نشأت الديهى أيضا، ما مضمونه أن حصة مصر من المياه خط أحمر وأنها لن تتنازل عن نقطة مياه واحدة.
عمليا فإن كلام الرئيس لا يختلف كثيرا من حيث الجوهر مع كلام سامح شكرى بأن مصر لن تتنازل عن قطرة مياه واحدة. وهو ما يعنى أن التحرك المصرى سيتم حينما تتهدد حقوق مصر المائية وليس قبلها.
لكن عددا كبيرا من المصريين فهم من هذه التصريحات وتصريحات رسمية أخرى لاحقة بأن مصر ستحارب إثيوبيا غدا، بل وقد تقوم باحتلال منطقة بنى شنقول الإثيوبية وتعطيل السد أو هدمه. فى حين أن مجمل التصريحات المصرية رسالة لإثيوبيا بأن مصر جادة فى حماية حقوقها المائية، ورسالة للقوى الإقليمية والدولية المؤثرة بالضغط على إثيوبيا كى تتوقف عن التعنت والمراوغة والوصول إلى حل وسط يحفظ حقوق كل الأطراف.
تناقشت مع مسئولين مصريين كثيرين، ووصلت إلى قناعة بأن مصر لا يمكنها أن تتنازل عن قطرة مياه واحدة، لأنها دخلت بالفعل فى مرحلة العطش المائى.
لكن المشكلة التى حدثت بعد تصريحات الوزير شكرى أنه لم يتم التمهيد بشكل كافٍ ووافٍ للرأى العام، وأن نشرح له أنه لم يحدث أى تنازل أو تراجع مصرى عن المواقف السابقة، وأن العبرة هى بالخواتيم والنتائج والوقائع على الأرض، وليس فقط بالتصريحات رغم أهمية الأخيرة.
كان يفترض من جميع المسئولين عن هذا الملف الحيوى ووسائل الإعلام أن تبدأ عملية توعية شاملة للرأى العام، بما نحن مقدمون عليه، وأنه لم يحدث تراجع.
لو حدث هذا التمهيد، ما رأينا حالة الصدمة واليأس والإحباط الذى انتاب وأصاب الكثير من المواطنين المصريين على اختلاف درجاتهم، وجعلهم يعتقدون أن إثيوبيا ستقطع المياه عن مصر غدا، وأن العطش قادم لا محالة. ولذلك كان جيدا حديث الوزير سامح شكرى مع عمرو أديب مساء الجمعة لإصلاح ما تسببت فيه التصريحات الأولى مع الديهى.
تقديرى أننا أخطأنا فى عملية التمهيد للرأى العام، وتقديرى أيضا أننا كان ينبغى أن نكون أكثر حسما وقوة مع إثيوبيا حينما هربت من التوقيع على الاتفاق فى واشنطن فى نوفمبر ٢٠١٩.
لكن فى كل الأحوال التقييم والعبرة والحساب بالخواتيم والنتائج على الأرض.