رأينا، يوم الأربعاء الماضى، الجانب المظلم من التقارب المفرط بين دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو؛ لفتة رئاسية استثنائية تحمل معها، ليس فقط الدعم، بل أيضا الضغط، من خلال اقتراحٍ بشأن تجاوز المسار القضائى الإسرائيلى باسم «الوحدة السياسية». إنه عناق خانق، وما زال من غير الواضح مَن ستكون ضحيته، فهناك عدد من الاحتمالات، تبعا للسيناريوهات والدوافع الحقيقية الكامنة وراء الرسالة.
نبدأ من الأساس: فمن حيث المبدأ، تنطبق صلاحية العفو التى يتمتع بها رئيس الدولة فقط على مَن تمت إدانته وصدر بحقه حكم قضائى. وهذه ليست ملاحظة إجرائية، بل ركيزة دستورية أساسية. فالمتهم الذى يخضع للمحاكمة، حتى لو كان اسمه بنيامين نتنياهو، يتمتع بقرينة البراءة، ولا يندرج فى مجال العفو بعد؛ لقد شهد التاريخ الإسرائيلى استثناء واحدا معروفا فى قضية الحافلة رقم 300.
آنذاك، فى تلك القضية، منح رئيس الدولة حاييم هرتسوج كبار مسئولى الشاباك عفوا مبكرا، وصادقت المحكمة العليا على الخطوة بأغلبية ضئيلة. حتى فى تلك الحالة، أصرّ القاضى أهارون باراك على نص القانون، ورأى أنه لا يمكن تجاوُز مرحلة الإدانة، ووصف الحكم فى القضية بأنه «استثناء نادر من نوعه».
الآن، يوجد نموذجان مطروحان على النقاش العام: نموذج البروفيسور أهارون باراك الذى رسم لنتنياهو فى خطاب علنى مسارا سليما قانونيا، لكنه صعب سياسيا، يقوم على الاعتراف، والتعبير عن الندم، والأهم من ذلك الانسحاب من الحياة السياسية، فى مقابل تجنُّب العقوبة؛ هذه الصفقة تبعث برسالة واضحة، مفادها بأن النظام القضائى لا ينتقم، لكنه أيضا لا يمحو الخطوط الحمراء وتدفيع ثمن شخصى.
من جهة ثانية، قدم ترامب مقترحا آخر من واشنطن: لا اعتراف، لا ندم، ولا دفع ثمن سياسى ظاهر، لكن ربما يكون الثمن خفيا غير معلن. إن اقتراح الرئيس الأمريكى ليس قانونيا، بل هو عرض للقوة السياسية.
يثير هذا العرض رفضا شبه فورى، لأنه ينمّ عن تدخُّل خارجى فظ فى قضية داخلية مشتعلة، ويتجاهل الأسس القانونية التى تستند إليها المنظومة الإسرائيلية، وهنا يكمن الخطر فى التقارب الشخصى مع دونالد ترامب، فالعناق السياسى الذى يقدَّم كدرع حماية لإسرائيل قد يتحول إلى حبل يلتف حول عنق النظام نفسه، وبين هذين الطرفين يقف نتنياهو.
إن قضية الحافلة رقم 300 توحى بكيفية إمكان تطبيق عفو مشابه: اعتراف بالوقائع من دون اعتراف بالذنب، وفى ملفات نتنياهو، هناك وقائع ليست موضع خلاف (مثل الاتصالات بموقع «والا» وهدايا السيجار)، بينما يدور الجدل حول تفسيرها القانونى، وهذا يشكل أرضية خصبة لصوغ «معادلة عفوٍ مخففة»، إن وُجد مَن يوقّعها، وإذا وافقت عليها المحكمة العليا.
يواجه الرئيس يتسحاق هرتسوج قرارات معقدة؛ فالقضية لا تتعلق بالجانب القانونى المحض فحسب، بل أيضا بالأبعاد السياسية والدبلوماسية والجماهيرية. والسؤال: ماذا ستفعل المحكمة العليا إذا عُرضت أمامها قضية عفو مبكر، أو «مخفف؟».
وهناك اعتبار آخر لا يقلّ أهميةً، هو الرأى العام. فمَن شاهد الاحتجاجات فى الشوارع خلال العام الماضى، يعرف أن الرأى العام لن يتقبل بسهولة صفقة تعيد نتنياهو إلى الساحة، من دون عقوبة قضائية، وقد يجعل المتظاهرون اليمينيون واليساريون، على حد سواء، من الرئيس والمحكمة العليا أهدافا مباشرة للضغط.
إن هرتسوج الذى بنى لنفسه صورة وسيط وشخصية فوق النزاعات، سيضطر إلى الاختيار: هل هو مستعد لدفع ثمن القرار؟ والذى قد يكون باهظا للغاية، بالنسبة إليه شخصيا.
أبعاد دولية خفية
هل جاءت رسائل ترامب لهرتسوج «من قلبه؟» وهل يتصرف بعفوية، أم أن الخطوة منسّقة ما وراء الكواليس؟ من الصعب التصديق أن رسالة كهذه تصل من واشنطن إلى القدس من دون تنسيق مسبق. فمن المرجح أننا نشهد تهيئة للرأى العام، تمهيدا لطلبٍ مستقبلى على غرار «إسرائيل بحاجة إلى مصالحة وطنية».
لكن الغلاف الدبلوماسى لا يحلّ المأزق القانونى، وهنا تكمن الخطورة: عندما تأتى اليد التى توضع على الكتف من شخصية أمريكية مهيمِنة بهذا الشكل، فإن استقلال المؤسسات الإسرائيلية فد يتحول إلى شعور بالالتزام السياسى.
إذا تقدم هذا المسار فعلا، فسيُطلب من رئيس الدولة وقضاة المحكمة العليا البحث، ليس فقط فى مسألة العفو، بل فى مسألة أعمق: هل كان الهدف من المحاكمة إنهاء عهد نتنياهو، أو أصبح كذلك؟ وهل يجوز للدولة اختصار الطريق لتحقيق ما يُسمى بـ«إغلاق ملف وطنى؟».
مَن يؤمن بسيادة القانون، يجب أن يحذر من الإجابات السهلة، ومن يسعى للوحدة، عليه تجنُّب الحلول الشعبوية السريعة.
آنا برسكى
معاريف
مؤسسة الدراسات الفلسطينية