قواعد المباريات ما بين الرياضة والسياسة في الشرق الأوسط - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قواعد المباريات ما بين الرياضة والسياسة في الشرق الأوسط

نشر فى : الأحد 23 أبريل 2023 - 7:20 م | آخر تحديث : الأحد 23 أبريل 2023 - 7:20 م
لا أزعم الخبرة فى الرياضة، والتى أكتفى منها بالسير صباحا بخطوات هادئة فى أرضية ملعب كرة القدم فى النادى الذى أرتاده، ولكنى أستطيع معرفة نتيجة مباريات الأهلى والزمالك بالنظر إلى حال الشوارع المحيطة بمسكنى عقب انتهاء أى من هذه المباريات مباشرة وذلك دون مشاهدة المباراة على شاشة التلفزيون أو سماعها على الراديو أو متابعتها من خلال وسائل التواصل الاجتماعى. إذا كانت الشوارع هادئة أوقن أن النتيجة كانت تعادلا، أما إذا كانت الشوارع تغص بالجماهير حاملى الأعلام، وسائقو السيارات يشاركونهم الهتافات بأبواق سياراتهم، فأدرك حينئذ أن النتيجة كانت انتصارا للنادى الأهلى، وعندما تكون الضجة أخف، ومع ذلك تتردد الهتافات بين حين وآخر ودون تجمعات كبيرة فسوف أقول لنفسى لقد انتصر الزمالك. هدوء شوارع القاهرة بعد مواجهة قطبى الكرة المصرية هو ما يسميه علماء السياسة فى مصطلحاتهم نتيجة مباراة غير صفرية، أما حشود الجماهير، قليلة أو كثيرة، فهى ما يشيرون إليه بأنه نتيجة مباراة صفرية. وهكذا، فالمباراة الصفرية هى التى تنتهى بغالب ومغلوب، أما المباراة غير الصفرية، فهى التى تنتهى بالتعادل، فليس فيها غالب ولا مغلوب. الجديد فى ملعب السياسة فى الشرق الأوسط هو أن اللاعبين الإقليميين الكبار فيه، باستثناء إسرائيل وراعيتها الولايات المتحدة، قد تخلوا عن السعى إلى النتيجة الصفرية، وهو ما أعتبره تطورا جيدا يستحق أن نحتفل به فى ختام أيام عيد الفطر المبارك، وأن نصلى من أجل أن تسود المباريات غير الصفرية لدى كل اللاعبين الإقليميين والدوليين، فى الشرق الأوسط وخارجه، وعلى صعيد العلاقات بين الدول، وكذلك وهو ما لا يقل أهمية، فى العلاقات بين الحكومات والمواطنين، وخصوصا عندما يعرب هؤلاء المواطنون عن اهتمامهم بالشأن العام سواء من خلال التقائهم فى منظمات المجتمع المدنى من جمعيات ونقابات وأندية ثقافية أو فى إطار أحزاب سياسية. سوف أستعرض باختصار فى هذا المقال نماذج للمباريات التى انخرط فيها اللاعبون الوطنيون والإقليميون والدوليون، وأسباب العدول عند بعضهم عن المباريات الصفرية وتبنيهم أخيرا للمباريات غير الصفرية.

التحول إلى المباريات غير الصفرية فى الشرق الأوسط

أمثلة المباريات الصفرية كانت فى العلاقة بين قطر من ناحية والرباعى الذى تألف من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات والبحرين ومصر من ناحية أخرى خلال الفترة من يونيو ٢٠١٧ وحتى يناير ٢٠٢١. وجه الرباعى لدولة قطر إنذارا من ثلاثة عشر مطلبا وفرضت دولهم على قطر مقاطعة متعددة الجوانب بما فيها وقف العلاقات الدبلوماسية وحظر خطوط طيرانهم من التوجه إليها ومنها ومقاطعة خطوط طيرانها. وانتهت هذه المقاطعة فى قمة العلا فى يناير ٢٠٢١، لم تستجب قطر لكل هذه المطالب، وقبلت الحكومات الأربع استئناف العلاقات الكاملة مع حكومة قطر. وهكذا يمكن القول بأن الخلاف بين هذه الدول قد تحول من الرغبة فى إنزال هزيمة ساحقة بدولة قطر إلى التغاضى عن كثير من بنود المقاطعة. لم يكن هناك غالب ومغلوب فى هذه القصة، وفى الحقيقة يمكن القول إن استعادة التضامن بين هذه الدول كانت انتصارا لها جميعا، فلم يعد أى منها يهدد أمن الدول الأخرى، وتحولت المقاطعة فى حالة مصر تحديدا إلى تعاون متعدد الأوجه مع دولة قطر، وكان حضور قادة الدول الأربع افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية فى قطر فى صيف ٢٠٢٢ تتويجا للصفحة الجديدة فى العلاقات بين هذه الدول.

العلاقات الخليجية الإيرانية كانت مثلا آخر لما بدا أنه مباراة صفرية بين أطرافها وهم نفس الرباعى فى المباراة السابقة من ناحية وإيران من ناحية أخرى. مطالب الرباعى كانت متعددة منها وقف التدخل الإيرانى فى شئون هذه الدول بتشجيع المواطنين الشيعة فيها على التمرد ضد حكوماتهم، وربما وقف البرنامج النووى الإيرانى، وسعت دولة الإمارات إلى ما يقرب من التحالف متعدد الأوجه مع إسرائيل عدو إيران اللدود ومضت على خطى التطبيع الكامل معها فى جميع المجالات ودعت الدول العربية الأخرى إلى السير معها على نفس الطريق، ثم انتهى الأمر بالمصالحة السعودية الإيرانية بوساطة صينية الشهر الماضى واتفقت الدولتان على استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة فيما بينهما، وتبعت البحرين خطى السعودية فى هذا المجال، وكانت دولة الإمارات قد سبقتهما بزيارات على مستوى كبار المسئولين فيها وإعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية على مستوى السفراء فى أغسطس ٢٠٢٢.

والمثل الثالث على العدول عن توقع الهزيمة المطلقة للخصم إلى قبول التعايش معه، بل والسعى للتعاون معه فى مجالات عديدة، هو فى العلاقات التركية العربية وخصوصا العلاقات التركية المصرية. تخلت الحكومة التركية عن مطلبها من الحكومة السعودية بتسليم المواطنين السعوديين المسئولين عن اغتيال المرحوم جمال خاشقجى داخل القنصلية التركية فى إسطنبول، وتعهدت الحكومة السعودية من جانبها بتوجيه خمسة مليارات من الدولارات كاستثمارات سعودية فى الاقتصاد التركى الذى يمر بأزمة اقتصادية خانقة، وأسفر تبادل الزيارات بين وزيرى الخارجية المصرى والتركى عن الاستعداد لاستئناف العلاقات الدبلوماسية على مستوى السفراء والتحضير للقاء قمة بين رئيسى البلدين لم يتحدد موعده بعد.

المثل الأخير هو فى السعى لاستعادة العلاقات الدبلوماسية مع الحكومة السورية وتبادل الزيارات على مستوى وزراء الخارجية وذلك من جانب الحكومات التى لم تكتفِ بمقاطعتها فى السابق ولكنها فضلا عن ذلك كانت تؤيد الجماعات المسلحة المناهضة لها أو شاركت مع ما يسمى بالتحالف الدولى الذى تقوده الولايات المتحدة فى شن الحرب على الجيش السورى، وفى مقدمة هذه الدول كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات والأردن، فضلا عن الحكومة المصرية التى انتقلت من موقف تأييد الجماعات المناهضة للحكومة السورية فى ظل حكومة الإخوان إلى الاكتفاء بالمقاطعة الدبلوماسية مع التعاطف غير المعلن مع الحكومة السورية. وأصبحت هذه الدول على استعداد لعودة الحكومة السورية إلى شغل مقعدها فى إطار الجامعة العربية.

أسباب التحول إلى المباراة غير الصفرية

التحول فى موقف حكومات دول الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل، عن توقع الهزيمة الكاملة إلى قبول التعايش بل والتعاون مع خصومها السابقين يعكس بكل تأكيد تعبيرا عن نهج الواقعية السياسية فى إدارة السياسة الخارجية لهذه الحكومات، والناتج عن صعوبات تواجهها إما فى أوضاعها الداخلية أو على صعيد علاقاتها الخارجية وإدراكها لضرورة خفض توقعاتها عما يمكن تحقيقه من خلال السياسة الخارجية، وأن هذا الذى يمكن تحقيقه يقتضى منها كذلك أن تقدم بعض التنازلات، كأن تقبل بوجود خصومها بنظمهم السياسية ومع استمرار الخلاف حول بعض القضايا ولكن بالتناقش حول هذه القضايا بأساليب دبلوماسية. كل هذه الحكومات تواجه بلا استثناء أوضاعا اقتصادية صعبة هى الأكثر وضوحا فى حالات إيران ومصر وتركيا، تضاف إلى تذمر من جانب الرأى العام يصل إلى ما يشبه الاحتجاجات الشبابية الواسعة فى إيران، وانخفاض مستوى التأييد للحكومة فى الدول التى تسمح بالمعارضة المنظمة وتوشك على الدخول فى انتخابات تشريعية ورئاسية قد تطيح بحكوماتها مثل تركيا، كما يواجه بعضها صعوبات بل وفشلا فى السياسة الخارجية يصل إلى حد فرض عقوبات عليها من الدول الرأسمالية الكبرى فى حالة إيران، أو نزاعات مع الدول المجاورة على تحديد المياه الإقليمية كاد أن يصل إلى حد الصراع المسلح كما فى حالة تركيا وعلاقاتها باليونان، أو أنها تعانى إخفاق تحقيق طموحاتها فى هزيمة أنصار خصومها فى الدول المجاورة، على نحو انتهى بتهديد أمنها الداخلى ذاته، وهو ما عرفته الحكومة السعودية بعد تدخلها العسكرى فى اليمن منذ ٢٠١٥ وما مارسته من ضغوط على رئيس وزراء لبنان السابق سعد الحريرى. ولذلك فى مواجهة هذه الأوضاع الداخلية أو الخارجية الصعبة قبلت هذه الحكومات أن تُقدم تنازلات لخصومها أملا فى أن تتمكن من خفض مستوى التوتر فى علاقاتها الخارجية حتى تتفرغ لمواجهة تحديات أخطر، أو تستفيد من التعاون الذى يمكن أن تدخل فيه مع خصومها السابقين. وهكذا، أوقفت حكومتا قطر وتركيا نشاط جماعات الإخوان المسلمين المناهض للحكومة المصرية، ولا شك أن الحكومة الإيرانية أو أجهزتها دعت جماعة أنصار الله فى اليمن لوقف هجماتها على السعودية، وتخلت الحكومة السعودية عن مساندة الجماعات التى كانت تناهض الحكومة السورية وعن التطلع لحجم نفوذ حزب الله فى إيران.

هذا التحول إلى القبول بعلاقات لا غالب فيها ولا مغلوب من شأنه أن يخفف من أسباب التوتر فى العلاقات بين الدول العربية وبعض جيرانها من غير العرب، وقد يفتح الباب أمام وقف الصراع المسلح فى بعض الدول العربية مثل اليمن وليبيا وسوريا. والمأمول أن يمكّن ذلك دول الإقليم من أن تكرس جهودها للارتقاء بأحوال مواطنيها. ولا يقل أهمية عن ذلك أنه دليل على أن النظام الإقليمى فى الشرق الأوسط يثبت استقلاله عن القوى التى تسعى للهيمنة على النظام الدولى، وهى تحديدا الدول الغربية تحت قيادة الولايات المتحدة؛ فمن المعروف أن الولايات المتحدة تعترض على تهدئة العلاقات بين الدول العربية وإيران، وترفض المصالحة بين النظام السورى والحكومات العربية، وتتماشى فى ذلك مع الحكومة الإسرائيلية التى هى الأشد اعتراضا على هذه التوجهات. بل يمكن القول إن الحكومات العربية إذا ما تحلت بالوعى والإرادة فإن مثل هذا التحول يفيد كل دول الإقليم فيما عدا إسرائيل، فهى عندما توثق التعاون فيما بينها، يمكن أن تشكل تجمعا إقليميا يكون له نفوذ واسع على الصعيد العالمى بما تملكه الدول القائدة فى هذا التجمع المتصور من قدرات مالية واقتصادية وعلمية وعسكرية.

أين تجرى المباريات الصفرية؟

من ناحية أخرى مازالت بعض الأطراف الإقليمية والفاعلون المحليون يمارسون أدوارهم كما لو كانوا يسعون للهزيمة المطلقة لخصومهم. هذا هو حال إسرائيل مع الدول العربية التى لا تعترف بحكومتها وخصوصا فى دول الجوار فى سوريا ولبنان وفى علاقاتها بالفلسطينيين، وهذا هو حال العسكريين المتحاربين فى السودان، وهذا هو الحال فى العلاقة بين الفصائل الفلسطينية، وهذا هو حال معظم الحكومات العربية فى التعامل مع مواطنيها وخصوصا فيما يخص ممارستهم لحقوقهم المدنية والسياسية. بل وهذا هو سلوك الولايات المتحدة وحكومات حلف شمال الأطلنطى فى تدخلهم ضد روسيا فى أوكرانيا؛ يتوهمون إمكان إسقاط اللاعب الروسى هناك بالضربة القاضية.

المباراة غير الصفرية فى صالح الجميع

وكما هو الحال فى مباريات كرة القدم بين الأهلى والزمالك، المباراة غير الصفرية ترضى الجميع، وتحقق الهدوء فى شوارع القاهرة، وفى النظامين الإقليمى والدولى كذلك تحقق هذه النتيجة تخفيفا للتوتر وتحويل الموارد النادرة لما فيه صالح الشعوب. أما المباراة الصفرية فإنها توغل صدور المهزومين، وتفتح الباب أمام استمرار الصراع وتوجيه الموارد المحدودة لتطوير أسلحة الدمار وتقترب بأطرافها من مواجهة مسلحة المنتصر فيها مهزوم بسبب ما سيتكبد من خسائر، حتى لو كان النصر فيها ممكنا.
مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات