على مدار عام ونصف منذ بداية عملية طوفان الأقصى فى 7 من أكتوبر 2023، بدأت عمليات إبادة الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلى، وقد كان من المتوقع أن يكون هناك رد واسع النطاق من قبل قوات الاحتلال على هذه العملية، ومن المؤكد أن فصائل المقاومة الفلسطينية المختلفة كانت على إدراك واسع بذلك. ولكن ما لم يكن متوقعا هو توسيع الحرب لتصل إلى الإبادة الجماعية لكافة سكان قطاع غزة.
رسمت هذه الحرب خلال عام ونصف العديد من التطورات ليس فقط على مستوى القضية الفلسطينية، ولكن على مستوى العلاقات والنظم الدولية. مثلت الحروب الإعلامية أول هذه المظاهر، فمع بداية عمليات طوفان الأقصى، ومن بعدها الإبادة تحولت الحرب إلى الساحات الإعلامية حول العالم، فنجد العديد من المنصات قد بدأوا فى الحديث عن حق إسرائيل فى الرد على ما أسموها «الهجمات الإرهابية» من قبل حماس، ومعها جاءت الحروب الأكاديمية التى حاولت ترسيخ مفاهيم مغلوطة حول الحرب، وإنها حرب على الديمقراطيات، على اعتبار أن إسرائيل ممثل الديمقراطية فى الشرق الأوسط فى ظل نظم سلطوية. وعلى الجانب الإسرائيلى، استخدمت الخطابات الرسمية مصطلح الحرب على الإرهاب، لكسب التأييد الدولى والتعاطف الإنسانى، ولم يُستخدم هذا الخطاب فقط فى الإبادة الجماعية للشعب الفلسطينى، ولكن كذلك مع توسيع هجماتها لتصل إلى لبنان أيضا.
على المستوى الدولى أيضا؛ أظهر العام والنصف إشكاليات تتعلق بالديمقراطية فى العالم كافة فالنظم التى كانت ولا زالت تطرح نفسها كمثال للديمقراطية، سهلت وساهمت فى الإبادة الجماعية للشعب الفلسطينى. كما بدأ الحديث على الدور الاقتصاد الدولى فى الحروب، وباتت حقيقة راسخة أن الاقتصاد هو المسيطر والموجه للتوجهات السياسية تظهر فى قرارات النظم التى تدّعى الديمقراطية، وتدافع عن حقوق الإنسان، وهو ما أظهر أهمية الاقتصاد السياسى لفهم الحرب على غزة. والحرب على غزة لم تكن حرباً إسرائيلية فحسب، بل كانت حربا أمريكية بدعم مادى مباشر وتدخّل ميدانى على الأرض بفرق عسكرية شاركت فى العمليات الحربيّة.
• • •
لم تكن هذه هى فقط المتغيرات التى أحدثها الطوفان على مدار عام ونصف، ولكن كان هناك كذلك تغيرات على المستوى الإقليمى؛ مثلت هذه الفترة عودة للحركات الشعبية فى المنطقة العربية، وليست فقط المنطقة العربية، ولكن كانت الحرب بمثابة عودة الحركات الطلابية فى العديد من دول العالم مجددا للانتفاضة، فعلى مدار عام ونصف لم يتوان أو يضعف الحراك الطلابى فى الغرب الداعى إلى وقف إطلاق النار والمُندد بالإبادة الجماعية التى يتعرض لها الشعب الفلسطينى.
كما ظهرت الحركات اليهودية معادية للصهيونية وتصاعد دورها على المستوى الدولى خلال هذه المرحلة، وقادت هذه الحركات عددا من الاحتجاجات. ومن هذه الحركات حركة «ناطورى كارتا»، وهى حركة دينية يهودية لا تعترف بدولة إسرائيل على الأراضى الفلسطينية المحتلة، وتعتبر أن قيام دولة لليهود لا يكون بسلب شعب آخر أرضه، ولا يكون إلا بإذن من الرب، وذلك بعد أن يرجع اليهود إلى تطبيق شريعتهم التى عاقبهم الرب لمخالفتها، وشتتهم فى الأمصار وبين شعوب الأرض بسبب تضييعها. وكانت هذه الحركة فى بدايتها جزءا من حزب «أغودات يسرائيل»، ولكن انشقت عن الحزب عام 1937 اعتراضا على سياسات الحزب وتقاربه من القيادات الصهيونية. كما شاركت ونظمت هذه الحركة العديد من الفاعليات المساندة للشعب الفلسطينى ما قبل الإبادة حتى، وشاركت فى العديد من المحافل الدولية لمناصرة القضية، ومنها المسيرة العالمية إلى القدس 2012، ومؤتمر الأزهر العالمى لمساندة القدس 2018. كما أدانت الحركة حركات الاغتيال للقيادات الفلسطينية، وشارك أحد الحاخامات فى تشييع جثمان هنية من قطر.
وفى مرحلة الهدنة لوقف إطلاق النار، التى جاءت بعد أكثر من عام على الإبادة؛ جاءت الأحاديث حول خطط إعادة الإعمار، إلا أن مع وصول الإدارة الأمريكية الجديدة للسلطة أصبحت السياسة الأمريكية أكثر حدة مع الجانب العربى، وبدأ الرئيس الأمريكى فى الحديث عن تهجير الشعب الفلسطينى لحل الصراع من جذوره، وسط رفض مصرى لتصفية القضية الفلسطينية عبر هذا الحل. والتى بدأت مع تصريحاته بأن قطاع غزة يجب إفراغه من سكانه ونقلهم إلى مكان دائم، ثم تلى ذلك تصريحه فى لقائه مع نتنياهو فى 4 فبراير 2025 «إذا استطعنا إيجاد منطقة مناسبة لإعادة توطين أهل غزة دائما فى منازل جيدة سيكون ذلك أمرًا رائعًا». وبدء عرض مخططات استقبال الشعب الفلسطينى على كل من مصر والأردن اللتين رفضتا المخطط، وبالتالى بدأ الحديث عن حلول أخرى ودول بديلة كإندونيسيا. حيث يؤمن الرئيس الأمريكى بأن حل القضية سيكون من خلال تهجير الفلسطينيين.
• • •
بشكل عام؛ مثل العام والنصف تغيرات على القضية، وعلى طرق تناولها، وعلى عودة القضية مجددا لتشغل مركز الاهتمام سواء فى الشارع، أو على طاولات صناع القرار، ليس فقط فى المنطقة العربية بل فى العالم، فمن جانب لا تريد أغلب الدول امتداد الحراك داخليا ليشمل مطالب سياسية داخلية وخارجيا، بل على العكس من ذلك تريد الحفاظ على مصالحها الاقتصادية التى تمر عبر المنطقة وأماكن النفوذ. لذا عاد الاهتمام مجددا لمراكز الفكر والبحث العلمى لتناول تداعيات 7 من أكتوبر وما تلاه من إبادة للشعب الفلسطينى على السياسية والاقتصاد. وكان منتدى البدائل العربى للدراسات ببيروت من أوائل من استخدم مصطلح الإبادة الجمعية لتوصيف ما يحدث فى فلسطين فى ورقته المعنونة «العدوان الإسرائيلى المستمر، ليس صراعًا مع حماس فقط ولا غزة فقط»، والتى صدرت بعد شهر واحد فقط من عمليات طوفان الأقصى. وتناولت طبيعة الجولة الحالية من الصراع، وتحول الصراع إلى صراع مفاهيم وحرب للمصطلحات وعودة القضية للشوارع العالمية والعربية. كما ربطت العديد من الأنشطة التأثيرات الأخرى للحرب على المنطقة. ومع المحطات المختلفة للصراع طورت أيضا طرحها لفهم أعمق لما نقابله وللتغيرات، فمع مرحلة الهدنة نشر المنتدى ورقة متابعات حول «إعادة إعمار غزة، أم استكمال للحرب بطرق أخرى» وإدارة الولايات المتحدة الأمريكية لملف إعادة الإعمار، وورقة أخرى مهمة تطرح تصاعد دور الحركات اليهودية المعادية للصهيونية والمساندة للحق الفلسطينى بعنوان «الحراك اليهودى المعارض للحرب الإسرائيلية على غزة».
نرى مما سبق أن العام والنصف الماضيين مثل العودة مجددا للالتفاف حول القضية الفلسطينية فى المنطقة العربية، فطرحت القضية مجددا من جانب النظم العربية سواء للحفاظ على أمنها القومى كمصر والأردن أو للحفاظ على توازن القوى فى المنطقة كقطر والسعودية، كما عادت القضية مجددا للشارع العربى من خلال حركات المقاطعة والتضامن وكذلك فى الرأى العام العالمي، خاصة على المستوى الطلابى حتى وصل للحركات اليهودية المعادية للصهيونية. كما رأينا اتساع تناول القضية على المستوى الأكاديمى والعلمي، لذا لم تشكل عملية طوفان الأقصى فقط تغيرات فى طبيعة وملف الصراع الفلسطينى الإسرائيلي، بل شكلت نقطة تحول فى السياسة الدولية والإقليمية ونقطة مفصلية على المستوى الاقتصادى والاجتماعى والسياسى.
باحثة بمنتدى البدائل العربى للدراسات ببيروت