حديث فى المنهج 2: عندما مرّ أعرابى! - عبد العظيم حماد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حديث فى المنهج 2: عندما مرّ أعرابى!

نشر فى : الخميس 23 مايو 2019 - 10:55 م | آخر تحديث : الخميس 23 مايو 2019 - 10:55 م

لولا أن مثقفين كبارا شاركوا مؤيدين ابتهاجا واضحا «الهاشتاج» فى ذلك، الذى حمل عنوان: «ومرّ أعرابى» ما كنت لأهتم بالتعليق عليه، حتى وإن بلغ عدد المشاركين فيه ملايين الناس بدلا من مئات الألوف، لأنه إذا كان مفهوما ألا يعبأ أغلب المتعلمين وغير المتعلمين بضوابط المنهج، وقواعد المنطق فى ما يليه الصراع السياسى، والجدال الأيديولوجى، فليس مفهوما ولا مقبولا أن يفعل كبار المثقفين ذلك.

كعادتنا فى هذا النوع من الكتابات لا يهمنا الإشارة الصريحة لأسماء بعينها، ولكن تهمنا القضية المطروحة، ونقصر حديثنا عنها على كشف الاختلالات أو التباسات المنهجية.

كان «هشتاج»: «ومرّ أعرابى» يطرح فكرة أن مصر فقدت ريادتها الثقافية ورونقها الاجتماعى ودورها الحضارى، بعد الفتح (أو الغزو) العربى الإسلامى وبسببه، وكانت مصر حسب رأيهم فى أعلى عليين، وجاء الأعراب فأنزلوها سافل سافلين.

قلنا فى الأسبوع الماضى، ونكرر الآن إن لكل شخص الحق فى اختيار ما يعتقد فيه دينيا وفكريا وسياسيا، خاصة إذا كان ممن يوصفون بالمثقفين، وأن يروج لمذهبه، بشرط الانضباط والاتساق المنهجيين، فكيف إذا يسوغ لدى الرافضين للعروبة بمضامنها السياسية والثقافية والحضارية، وربما الرافضون للإسلام أيضا أن يؤسس هذا الرفض على إلصاق كل نقيصة بالعرب والمسلمين، لدرجة إنكار بديهيات التاريخ، ويكيف ويسوغ لديهم وصف مصر التى فتحها أوغزاها العرب المسلمون بغير حقيقاتها فى تلك الحقبة من التاريخ.

إن جيش عمرو بن العاص لم يؤخذ مصر من أحمس أو تحتمس أو رمسيس أو بسماتيك، ولم يأخذها من أحفادهم، ولكنه أخذها من حاكم رومانى بيزنطى وجيشه، بعد قرابة 700 عام من الغزوات الآشولية ثم الفارسية فالإغريقية فالرومانية، ومن قبل سادت قرون من الفوضى والضعف والغزو الإثيوبى، والغزو الليبى.

ومن حيث المستوى الثقافى، بل والحضارى العام كان دوره مصر قد انزوى، ليس بسبب ضمور مدرسة الإسكندرية الإغريقية، وإحراق مكتبتها فحسب، ولكن أضيف إلى ذلك أن الدور القيادى للكنيسة المرقصية المصرية فى قيادة الفكر اللاهوتى المسيحى لم يستمر طويلا وسرعان ما انزوى هو الآخر عقب الانقسام الخلقدونى الشهير، ومن حيث الوضع السياسى وأقصى المصريون تماما من شئون الإدارة والحكم، ثم جاء الصراع المذهبى بين الحكم الرومانى وكنيسته، والكنيسة المصرية ورعاياها ليحول هذا الإقصاء إلى اضطهاد عام.

كذلك ليس هناك مبرر للادعاء أو الإيحاء بأن أحوال عامة المصريين الاقتصادية كانت حسنة قبل الفتح الإسلامى، ليس فقط لأن بلدهم كانت مخزن غلال الإمبراطورية الرومانية، ولكن أيضا لأن الشراهة فى فرض الضرائب، والعنت فى جمعها تجاوزا حد العقوبات البدنية التقليدية كالجلد مثلا، أوالاسترقاق أو السخرى، إلى اختراع عقوبة لم تعرفها مصر من قبل ولا من بعد وهى «التشميس»، أى تكبيل المتعسر عن السداد وتركه فى العراء تحت وهج الشمس حتى الموت.

طبعا لا يخطر ببالنا إنكار أن كثيرا من ولاة وخلفاء المسلمين بالغوا فى استنزاف موارد المصريين، ولكن الثابت أنهم ألغوا العقوبات البدنية على المتهربين من الضرائب، أو المعسرين، وخاصة التشميس والجلد، وإن كان بعضهم أعاد عقوبة الجلد، ولكن هذه لم تكن سياسة عامة طوال عهود الولاة، وهنا يقتضى السياق الإشارة إلى الخطأ المنهجى فى التركيز على عنف الخلفاء والولاة فى إخماد الثورات المصرية وإغفال أن مثل ذلك حدث من الرومان والإغريق والفرس فى مصر وغيرها، وأن ذلك حدث من الخلفاء والولاة المسلمين فى غير مصر من مناطق دولة الخلافة، والأهم أن ذلك كان منطق وسياسة السلطات الإمبراطورية فى كل زمان ومكان حتى عقود قليلة من الزمان، ولكن دون تسويغ أخلاقى لهذا المنطق شرط تعميمه، وعدم قصره على العرب والمسلمين (الذين وصفوا عند مؤرخى الغرب بأنهم أرحم الفاتحين).

يقتضى السياق أيضا تذكر أن ما يسمى محق الفتح كان مبدأ معترفا به ومستقرا فى القانون الدولى حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما نص عهد عصبة الأمم على إلغائه، فى إطار المبدأ الأوسع القاضى بتحريم الحروب غير الدفاعية.

ننتقل الآن إلى ما روجه ذلك الهاشتاج عن الأعرابى الذى مر على مصر من إلصاق كل النقائص بالجنس العربى، فبالإضافة أن هذا أحد التطبيقات البغيضة للفكر العنصرى، فإنه أيضا تفكير شائن من الناحية المنهجية، وأقوال مرسلة لا تستند إلى أية حقائق، دون أن يعنى ذلك من جانبنا أنه لم توجد فى ثقافة العرب وأخلاقهم نقائص، لأن هذه بدورها مبالغة منقوطة، وشائنة كذلك.

مبدئيا ليس الأعرابى هو العربى، فالأعرابى هو البدوى الذى لا يسكن الحضر، ولا يعمل سوى بالرعى، والإغارة على غير قبيلته للسلب والنهب أما العرب فهم جميع سكان الجزيرة العربية من اليمن وساحل عمان حتى بادية الشام وتخوم العراق، ومن البحر الأحمر حتى الخليج وشط العرب فى الشرق، ومن يتحدثون العربية.

أغفل هذا الهاشتاج، أو تغافل عن أن البيئات الحضارية فى الجزيرة العربية حققت إنجازات ثقافية وحضارية وسياسية بالغة الرقى بمعايير العصر القديم.

تذكروا معى الدول المتعاقبة فى اليمن وإنجاز سد مأرب، الذى كان أكبر وأهم مشروع هندسى للرى والحضارة الزراعية فى العصور القديمة، مع حدائق بابل المعلقة وتذكروا أن اليمن كانت واحدة من المهاد التاريخية لاختراع الكتابة والحروب الأبجدية.

لنتذكر أيضا النظام السياسى الذى أسسه قصى بن كلاب الجد الخامس للنبى محمد صلى الله عليه وسلم لدولة المدينة فى مكة المكرمة، فهذا النظام كان بالغ الفعالية والكفاءة دون وجود الحاكم الفرد، حيث كانت تدار الشئون العامة من خلال صيغة برلمانية أطلق عليها دار الندوة، فيما وزعت الاختصاصات التنفيذية على المؤهلين من الرجال، فكان هناك صاحب اللواء أى قائد الحرب، وحامل الديات المختص بتسوية قضايا القتل، وكان هناك المسئولون عن الرفادة أى الإطعام، والسقايا، والسدانة أى رعاية المسجد الحرام، وغيرها.

وكما أشرنا فى المقال السابق فقد كان التحالف السلمى بين قريش والقبائل الواقعة على طريقها التجارى من اليمن إلى الشام (إيلاف قريش) إنجازا مبهرا لا يضاهيه إلا تحالف مدن الهانزا الألمانية فى أوائل العصور الحديثة، وكما ذكرنا أيضا فقد أنشأ حلف الفضول، ونظام الأشهر الحرم، وكلها إنجزات حضارية متقدمة حتى بالمعايير الحديثة، ومن ثم فإن تجاهلها، والتركيز على «الأعرابى» بغرض وصم الفاتحين أو الغزاة العرب المسلمين لمصر إنما هو خطيئة منهجية تقود إلى خطايا إنسانية وأخلاقية عتيدة.

أما إذا وسعنا زاوية النظر فسنجد أن آباء المسيحية الأوائل الذين غزو بدعوتهم بلاد الحضارة والأدب والفلسفة والقانون والسيف والرمح فى اليونان وروما كانوا فى الأصل جماعة من صيادى السمك الفقراء فى بحيرة الجليل، وبالطبع فإننى كمسلم أبجلهم، وأؤمن بهم حواريين للمسيح عليه السلام، لكنى لا أرى كبير فرق بينهم وبين الصحابة الذين فتحوا مصر من حيث القيمة الإنسانية والمستوى الحضرى، دون إغفال بالطبع الفارق بين الفتح بالسلاح، والدعوة بالكلمة، لكن أيضا دون إغفال أن المسلمين لم يستخدموا قط هذا السلاح فى إجبار أحد على التحول عن عقيدته.

أخيرا أظن أن كثيرين يغفلون السر وراء انتشار الإسلام، ومن قبله المسيحية فى إمبراطوريات العالم القديم، ومراكزه الحضارية الكبرى، هذا السر هو أن القديم قد أفلس، وأن الفلسفة يمكن أن ترضى الخاصة بل خاصة الخاصة، ولكن الدين هو ما يقدم العزاء والأمل للعامة والخاصة على السواء.

عبد العظيم حماد رئيس تحرير جريدة الشروق السابق. كاتب صحفي مصري بارز ، وشغل عدة مناصب صحفية مرموقة على مدار تاريخه المهني.ولد عام 1950 ، وحصل على بكالوريوس العلوم السياسية ، وعمل كمحرر ومعلق سياسي منذ عام 1973 ، سواء في الإذاعة والتليفزيون أو في مجلة أكتوبر أو في جريدة الأهرام ، وكان مديرا لتحرير الأهرام الدولي في أوروبا ، وكبيرا لمراسلي الأهرام في منطقة وسط أوروبا ، وله مؤلفات وأبحاث وكتابان مترجمان ودراسات دولية متنوعة.