السم... والعسل - سيد قاسم المصري - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السم... والعسل

نشر فى : الثلاثاء 23 أكتوبر 2018 - 11:20 م | آخر تحديث : الثلاثاء 23 أكتوبر 2018 - 11:20 م

كان الأصدقاء من السعوديين والمصريين المقيمين بالسعودية يقولون لى إنهم كانوا يخرجون إلى الصحراء ليستمعون إلى أحمد سعيد وإلى إذاعة صوت العرب وإلى مقال محمد حسنين هيكل الذى كان يذاع نصه كاملا من إذاعة صوت العرب من خلال راديو السيارة بعيدا عن أعين وآذان الأجهزة الأمنية حيث كانت الصحف المصرية ممنوعة من دخول السعودية فى أوج الصراع مع جمال عبدالناصر.
ثم جاءت ثورة الخمينى التى أطاحت بعرش الطاووس من خلال ثورة شعبية عارمة أشعلها الخمينى بخطبه المسجلة على كاسيتات، لتعمق فوبيا الخوف من الإعلام لدى الخليجيين والسعوديين خاصة.
وقد أيقظ هذا التأثير الجارف للإعلام مخاوفهم ولفت انتباههم إلى أهمية الإعلام وخطورته كسلاح من أمضى الأسلحة وترسخت هذه العقيدة لدى حكام الخليج على وجه الخصوص فوظفوا أموال البترول فى استجلاب أفضل العناصر الإعلامية وأحدث التكنولوجيات لاقتحام هذا الميدان.
فظهرت جريدة الشرق الأوسط التى أصبحت بحق جريدة العرب الأولى كما يقول شعارها ثم قامت السعودية بشراء جريدة الحياة اللبنانية وإعادة إصدارها من لندن ثم جاءت قطر بقناة الجزيرة فردت السعودية بقنوات العربية والحدث وقدمت الإمارات سكاى نيوز، وهكذا تمكنت الأموال الخليجية من بسط سيطرتها على الفضاء الإعلامى العربى.
إلا أن الذى فاتهم أن هذا الإعلام بكل إبهاره وحرفيته وتقنيته لا يمكنه أن يخلق حقائق على الأرض.. فستطل الحقيقة من خلال وسائط أخرى خاصة فى ظل السماوات المفتوحة حاليا.
***
هم ينزعجون من النقد العلنى أيا كان حتى ولو كان شيئا صغيرا لا يستحق التوقف عنده، وقد لمست ذلك بنفسى منذ البدايات الأولى لوصولى إلى الرياض فى بداية عام 1988 كأول سفير لمصر بعد عودة العلاقات الدبلوماسية.. فخلال إحدى الزيارات الأولى للدكتور عصمت عبدالمجيد للسعودية بعد عودة العلاقات حدث أن أبلغنى على الشاعر وزير الإعلام السعودى يومئذ ــ وفى صوته شىء من الاضطراب ــ أن الملك فهد مستاء للغاية مما نشر فى إحدى الصحف المصرية من تهجم على السعودية طال الأسرة المالكة نفسها وأنه، أى وزير الإعلام، يعتقد أن الملك عندما سيستقبل الدكتور عصمت لن يتحدث إلا فى هذا الموضوع.. وقد اتضح أن هذا الموضوع «الخطير» يتعلق بصحفى مصرى مغمور ينشر صحيفة غير منتظمة الظهور وليس لها توزيع يذكر ويستخدمها فى الابتزاز وأن السعودية سبق أن استضافته وأغدقت عليه.. ويبدو أنه أراد أن يعيد الكرة للحصول على المزيد ولكن لم تسلم الجرة هذه المرة فقد شكته السعودية رسميا وعلى أعلى مستوى (الملك نفسه) إلى السلطات المصرية التى قامت «باللازم» تجاهه.
مثل هذا الموضوع لم يكن يستحق أن يعرض على الملك أصلا ولا أن يكون على جدول أعمال أول لقاء مع وزير خارجية مصر بعد فترة طويلة من انقطاع العلاقات.
ومثال آخر فى هذا السياق... فى شهر رمضان عام 1991 طلب الأمير سعود الفيصل مقابلتى بصفة عاجلة فذهبت إليه فى منزله بجدة فبادرنى بقوله: هل اطلعت على مجلة المصور؟ فأجبت بالنفى فأعطانى إياها وكان على غلافها صورة للوزير حسب الله الكفراوى وبداخل العدد حديث طويل له بعد عودته من زيارة للكويت على رأس وفد مصرى ذهب لاستكشاف إمكانيات المساهمة فى إعادة الإعمار بعد تحريرها من الغزو العراقى.
قال لى الأمير سعود إنه عائد لتوه من مقابلة مع الملك فى مكة حيث كان يقضى كعادته العشر الأواخر من رمضان وأن الملك مستاء للغاية مما جاء فى كلام المهندس الكفراوى.
فما هو الكلام الذى أغضب الملك إلى هذه الدرجة.. بدأت أقرأ الحديث المنشور فوجدت أن الكفراوى عندما سئل عن الدمار الذى لحق بالكويت من جراء الغزو قال إن الكويت لم تدمر ولكنها نهبت فهو لم يجد «لوح زجاج واحد مكسور فى أى مبنى.
وأضاف ــ وهذه هى العبارة التى شكلت لب القصيد ــ «لذلك فأنا متعجب من العرض الذى قدمه الأمريكان لإعمار الكويت مقابل مائة مليار دولار.. هذا لا يمكن تفسيره إلا أنه مؤخر أتعاب».
أى إن الأمريكان يريدون أن يتقاضوا ثمن تحريرهم للكويت.. وهذا صحيح تماما وهو ما يقال علنا الآن ورسميا ويردده ترامب فى كل مناسبة.. ادفعوا ثمن الحماية.. وترامب يردد ذلك باندفاع وجهالة ولا يقدر كم هو مؤلم ومحبط لأولئك الذين يريد أن يقيم معهم علاقات وطيدة.. فهم مستعدون للدفع ولكنهم لا يحبون العلنية وعند الاضطرار للخروج للعلن فلابد من الغطاء اللائق.
***
كان السعوديون فى الماضى يحاولون دائما استمالة من يهاجمونهم بكل الوسائل الناعمة.. إما بالإغراءات المادية أو بأساليب أكثر لطفا مثل إقامة قنوات اتصال.. وأذكر أن الإعلامى المرموق المرحوم موسى صبرى عندما زار الرياض ضمن الوفد المرافق للرئيس مبارك فى أول زيارة له بعد عودة العلاقات كان متوجسا وشاعرا ببعض الحرج خشية ردود الفعل لدى السعوديين من جراء الهجوم الشديد الذى كاله للسعودية وسياساتها خلال فترة قطع العلاقات إلا أنه فوجئ بالتكريم واللطف الزائد وقال لى إن الأمير سلمان أمير الرياض فى ذلك الوقت (الملك حاليا) زاره فى المستشفى عندما علم أنه أجرى جراحة عاجلة ومكث معه فترة طويلة.
***
جمال خاشقجى لم يكن أشد المعارضين بل قد يكون أكثرهم اعتدالا ــ إلا أنه كان ذا مصداقية ومنطق وتحليل هادئ يصل إلى العقول وذا انتشار عالمى ومن كتاب الأعمدة فى جريدة الواشنطن بوست وكلامه يصل إلى الدوائر التى تهم صناعة القرار فى الرياض.. وهنا مكمن الخطورة التى قادته إلى هذه النهاية المأساوية... إلا أن الذى قتله لإخماد صوته قد أوصل بفعلته هذه صوته مدويا إلى جميع أركان العالم.. وجعل أشد المخاوف التى كان يخشاها القاتل مطروحة الآن وبقوة على موائد البحث فى العواصم العالمية.
***
هناك مقولة سمعتها كثيرا فى السعودية تقول «اللى يقتلك بالسم اقتله بالعسل».. وبالفعل كانت هذه هى القاعدة التى تسير عليها الأمور.. فما الذى حدث لهم ولماذا استُبدل العسل بالسم.. وبهذه الفظاعة والفجاجة والقسوة الوحشية.. أعتقد أن جريمة مقتل جمال خاشقجى فى قنصلية بلاده والتبريرات البائسة التى صدرت والتى تدين ولا تبرئ تشكل سابقة لا مثيل لها تضاف إلى مصائبنا العظام وسيكون لها نتائج كارثية.

سيد قاسم المصري مساعد وزير الخارجية الأسبق
التعليقات