75 عاما على قيام الأمم المتحدة.. أزمة تعدُدِيَة الأطراف - عزت سعد - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

75 عاما على قيام الأمم المتحدة.. أزمة تعدُدِيَة الأطراف

نشر فى : الجمعة 23 أكتوبر 2020 - 8:30 م | آخر تحديث : الجمعة 23 أكتوبر 2020 - 8:30 م

اليوم، 24 أكتوبر، يحتفل العالم بذكرى مرور 75 عاما على قيام الأمم المتحدة عام 1945، وبهذه المناسبة أقرَت الجمعية العامة للمُنظَمة فى احتفالية فى 21 سبتمبر الماضى فى اليوم السابق على إطلاق دورتها الحالية إعلانا أكد المبادئ والأهداف من وراء إنشائها والتحديَات المعاصرة التى تواجهها، معتبرا جائحة (كوفيدــ19) بمثابة «التحدى العالمى الأهم فى تاريخ الأمم المتحدة». وبدا الإعلان وكأنه ينعى النظام الدولى المُتعدد الأطراف عندما أشار إلى أن هذه التحديات «متشابكة لا يُمكن التصدِى لها إلاَ من خلال بث الحياة من جديد فى تعدُدِيَة الأطراف».
والواقع أن النظام الدولى القائم على شبكة واسعة من المؤسسات الدولية التى تشجع الدول على التعاون والتفاعل، ارتبط أساسا بما يسمَى بـ«النظام الليبرالى الدولى»، والذى يقوم على ركائز خمس: أولها تعدُدِيَة الأطراف، وثانيها توزيع القوة التى تُسهِل القيادة المشروعة لدولة قائدة، وثالثها النطاق العالمى الضرورى لعمل هذه الآليات، ورابعها أثر الاعتماد الاقتصادى المتبادل فى تحقيق السلام، وأخيرا الديمقراطية وتعزيزها. وتمثل تعددية الأطراف مقتضيا أساسيا للركيزتين الأولى والثانية، وهى مفهوم تكميلى لــ«المؤسسات الدولية»؛ حيث يصعب تصوُر وجود هذه الأخيرة ما لم تكن قائمة على أساس تعددية الأطراف، وإلاَ ستصبح مجرد أداة للهيمنة على الدول الأخرى. وفضلا عن ذلك لا توجد تعددية أطراف بدون إطار مؤسسى، لأنها ستكون ببساطة شكلا من أشكال التعاون المؤقت. فالانتماء إلى المنظمات الدولية يُقيِد سلوك الدولة، تماما مثل الأجهزة الداخلية المُقيِدة لسلوك الأفراد، حيث تجبر المنظمات الدولية دولها الأعضاء على قبول الالتزامات أو حتى الجزاءات، ومن هنا تبدو تعدُدِيَة الأطراف مُهمَة للنظام الدولى كآلية جماعية لصياغة وتنفيذ قواعد عالميَة وإقليمية تستهدف تنظيم وتنسيق سلوك الدول والمواءمة بين مصالحها، بما يجلب الاستقرار وتحقيق رفاهية المُجتمعات.
ومن المنظور الليبرالى، فإن من شأن ذلك الإضعاف من قدرة الدول على تعظيم فوائد تفوقها النسبى، ما يؤدى إلى ضبط النفس الاستراتيجى. وبالمثل، فإن تعدُدِيَة الأطراف ضرورية بالنسبة للركيزة الثانية للنظام الليبرالى، أى التوزيع الهرمى للقوة. ويعنى التسلسل الهرمى ضمنا وجود دولة رائدة قادرة على، وراغبة فى ضمان عمل آليات النظام بشكل صحيح، وهى لا تفعل ذلك باستخدام قوتها فقط، بل وأيضا من خلال توافق الآراء. فالنظام الليبرالى يقوم على النظر إلى الهيمنة المقيدة، التى تحد من الطموح الاستراتيجى للدولة القائدة، من قبل الدول الأخرى على أنها أساس القيادة الشرعية وسبب للتوافق حولها. ومثل هذا التعهد لن يكون واقعيا ما لم يقترن بتعددية الأطراف. وبمعنى آخر، فإنه بدون تعددية الأطراف، لن تكون تصرفات الدولة القائدة متوقعة وشفافة، كما لن تكون متوافقة، ولو نسبيا، مع مصالح الدول التابعة لها، التى تسمح لها تعدُدِيَة النِظام بالمشاركة فى اتخاذ القرارات ومناقشتها والتعبير عن احتياجاتها ومصالحها والمُساهمة فى تشكيل قواعد النظام الدولى، بل والدُخُول فى تحالفات للدفع بهذه المصالح فى الحاضر والمستقبل.
***
والواقع أن التحديات التى تواجه تعدُدِيَة الأطراف ترجع إلى ما قبل إدارة ترامب ومنذ انتهاء الحرب الباردة. وعلى سبيل المثال فإن المُتأمِل لحالة عدم الاستقرار والفوضى الأمنية فى منطقة الشرق الأوسط، يجد أن أحد أهم أسبابها هو سوء إدارة السلم والأمن الدوليين فى هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية لكل دول العالم، من قبل الإدارة الأولى لجورج بوش الابن وميلها إلى العمل المنفرد بعيدا عن الشرعية الدولية ونظام الأمم المتحدة الذى يعد حفظ السلم والأمن الدوليين على رأس أهدافه الرئيسية. ولا شك أن الفوضى فى المنطقة بدأت بغزو العراق عام 2003 من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا بعيدا عن مجلس الأمن.
ومع الإدارة الحالية تعرضت تعدُدِيَة الأطراف لهجمات صارخة، حيث تُشير السياسة الخارجية الأمريكية إلى التخلى شبه الكامل عن العمل الجماعى أو المتعدد الأطراف، بل إن ترامب وضع فعالية الأمم المتحدة موضع الشك من خلال الوقف الكامل أو تقليص التمويل الأمريكى لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين ولصندوق الأمم المتحدة للسكان ولصندوق البيئة الخضراء ومكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب. وجاء التنافس الجيواستراتيجى بين الولايات المتحدة والصين، والتى زادت حدَته مع تفشِى وباء فيروس كورونا المستجد، ليزيد من حالة عدم الاستقرار والفوضى فى النظام الدولى بالمقارنة بما كان عليه الحال من قبل.
كذلك أعلنت إدارة ترامب انسحاب واشنطن من مؤسسات واتفاقيات متعددة الأطراف مثل مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) والاتحاد البريدى العالمى واتفاق باريس لتغيُر المُناخ والصفقة النوويَة الإيرانيَة. وتطوَرت سياسة ترامب الخارجية تجاه الأمم المتحدة لتصبح عاملا حاسما فى إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار واللَا يقين، وهو ما أثر سلبا وبشدة على الحوكمة العالمية الأمر الذى أصبح مدعاةً لقلق كبير من قبل المجتمع الدولى حول آفاق النظام العالمى ما بعد الحرب الباردة.
***
وفى مناسبات عديدة، أعلنت إدارة ترامب تمسُكها بالعمل الأحادى خاصةً فى مجالات ثلاثة: الأول تأكيد الإدارة على استقلالية الولايات المتحدة ورفض تقييدها من قبل المنظمات الدولية والقواعد الدولية، وذلك رغم الدور الكبير لهذه المُنظَمات فى تنسيق مواقف الدول والتعاون فيما بينها لمواجهة التحديات العالمية. والثانى تمسُك إدارة ترامب بهيمنتها المباشرة فى الأمم المتحدة والدفاع عن زعامتها بطريقة تنافسية. فعلى خلاف مقاربة «القيادة من الخلف» التى تبنتها إدارة أوباما، تستخدم إدارة ترامب نفوذها فى الأمم المتحدة بدون أى مقتضى موضوعى للدفع قُدُما بالأجندة الأمريكية من خلال أعمال بالإدارة المنفردة مثل: التهديدات المباشرة، وربط القضايا وتخفيض تمويلها والانسحاب من المؤسسات الدولية. وفى هذا السياق، أكَدت استراتيجية الأمن القومى الأمريكية (ديسمبر 2017) بوضوح أن الولايات المتحدة «ستنافس وتقود فى منظمات مُتعددة الأطراف بما يحمى المصالح والمبادئ الأمريكية». وتجسدت آخر مظاهر السلوك الأمريكى فى هذا الشأن فى قرار الإدارة الأُحادى بالمضى قدما فى إعادة فرض العقوبات على تجارة الأسلحة وغيرها من العقوبات المفروضة على إيران والتى أوقف العمل بها بموجب قرار مجلس الأمن 2231، وذلك بعد فشل الضغوط المكثفة للإدارة فى استصدار قرار من المجلس بتمديد العمل بهذه العقوبات.
وكان ترامب قد شكا علنا من الأمم المتحدة بأن المساعدات الخارجية الأمريكية لم يكن لها عائد، معلنا أن بلاده ستقدم مساعدات خارجية فقط للبلدان والمؤسسات التى تحترم وتقدر مصالح الولايات المتحدة. ووضعت إدارة ترامب شرطا مسبقا لأى تمويل لهيئات الأمم المتحدة أو أنشطتها بأن تكون مُعزِزة لمصالح السياسة الخارجية الأمريكية، وهو ما أكدته استراتيجية الأمن القومى الأمريكية المشار إليها. أما المجال الثالث الذى تتمسك الإدارة بالعمل الأحادى فيه فيتعلَق بالرُؤية الخاصة لإدارة ترامب بالنسبة لإصلاح الأمم المتحدة، حيث تعتقد الإدارة أن المنظمة يجب أن تولى الأولوية لدعم القيم الاجتماعية المحافظة، وأن إصلاح المنظمة فى هذا الاتجاه هو نتيجة طبيعية للمساهمات المالية الأمريكية لها. وفى هذا الصدد، أقرَت وزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية الأمريكيتان فى فبراير 2018، خطة استراتيجية مشتركة للأعوام المالية (2018 ــ 2022)، مقترحةً أنه بحلول عام 2022 ستخفض المساهمات المالية الأمريكية للمنظمات الدولية بنسب أقل من تلك التى أقرت عام 2017. وفضلا عن ذلك، تعتقد الولايات المتحدة أنه مما يجب إصلاحه فى المنظمة هو سوء معاملة الأخيرة لإسرائيل.
والحقيقة أن لدى النُخبة السياسية الأمريكية اعتقادا تاريخيا بأن الولايات المتحدة تعد «استثناءً»، وهو ما يجعلها غير مستعدة للالتزام بمقررات المنظمات الدولية أو القبول بالآليات المُتعددة الأطراف كأساس لعملية صنع سياستها الخارجية. وفضلا عن ذلك، فإن وضعية الولايات المتحدة وهيمنتها كقوة عظمى وحيدة بعد الحرب الباردة، وكذلك نظام التحالف القوى الذى أنشأته، وهى فى مركزه، قد مكَنها من اتخاذ أعمال بالإرادة المنفردة بدون الترخيص من الأمم المتحدة. وبهذا المعنى، فإن مفهوم إدارة ترامب بشأن «أمريكا أولا» ليس مفهوما جديدا، وإنما هو تعبير صارخ وطويل الأمد لطبيعة الدبلوماسية الأمريكية.
والخُلاصة هى أن رؤية ترامب للمؤسسات الدولية تؤثر فى خياراته السياسية تجاه الأمم المتحدة، وبعد أن ظلَت هذه المؤسسات بمثابة أداه هامة داعمة للوضعية المهيمنة لواشنطن بعد الحرب العالمية الثانية، باتت الإدارة تنظر إليها كساحة أساسية لتنافس القوى العظمى، وترتب سياستها تجاه الأمم المتحدة وفقا لأهدافها لدعم النفوذ الأمريكى على المستوى العالمى. وفى هذا السياق ذكر وزير الخارجية بومبيو، فى ديسمبر 2018، فى كلمة له فى بروكسل، أن «الأجهزة الدولية يجب أن تُسّهل التعاون الذى يعزز أمن وقيم العالم الحر، وإلاَ يجب إصلاحها أو إلغاؤها». ولا شك أن السياسات الأحادية لترامب تثير تحديات كبرى لمستقبل تطور الأمم المتحدة، كما أدت إلى تدهور العلاقات بين القوى الكبرى وأضعفت من قدرة المجتمع الدولى على مواجهة التحديات العالمية عن طريق التعاون، كما زادت من عزلة الولايات المتحدة ومن مخاطر وصولها إلى طريق مسدود. وإذا أعيد انتخاب ترامب فإنه سيُواصل تجنُب تعدُديَة الأطراف وعلاقات التَحالف الأمريكى لصالح الدبلوماسية الثنائية لخدمة أجندته الأكثر أحادية والقوميَة (أمريكا أوَلا). أمَا إذا فاز بايدن فلا يجب أن ننخدع بخطابه اللِيبرالى المُتحرِر، حيث ستؤدِى القيود الداخلية والخارجية على قوة الولايات المتحدة إلى الحد من طموحات ورغبات واشنطن فى إيجاد حلول للتحديات الدولية المُلحَة على طريقتها. وسيستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن يتمكن بايدن من إصلاح الأضرار التى لحقت بمصداقيَة وسُمعة الولايات المتحدة بسبب سياسات ترامب، خاصةً وأن استطلاعات كثيرة للرَأى العام الأمريكى تكشف عن حالة من الاستياء الشديد بسبب الالتزامات الخارجية والرَغبة فى التركيز أكثر على التحديات الداخلية التى تُؤثِر فى نوعيَة حياة المواطن الأمريكى فى وقتٍ تتزايد فيه مخاطر تفشِى الكثير من الأوبئة والحاجة إلى التَعامُل مع المُشكلات التى تُسبِبُها اقتصاديا واجتماعيا. كل ذلك يدعو الكثيرين إلى ترجيح أن يكون الدَور الأمريكى أقل نشاطا وتأثيرا فى الشئون العالمية فى السنوات القليلة القادمة، ونظام دولى أكثر تعقيدا وغموضا وارتباكا.

عزت سعد مدير المجلس المصري للشؤون الخارجية
التعليقات