كيف فعلها الأتراك؟ خمسة دروس - ياسر علوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 مايو 2024 11:46 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كيف فعلها الأتراك؟ خمسة دروس

نشر فى : الثلاثاء 24 فبراير 2009 - 1:20 م | آخر تحديث : الثلاثاء 24 فبراير 2009 - 1:20 م

 لم تكن تركيا دائما هذه الدولة المؤثرة في محيطها العربي بأدوات تتراوح بين دور عسكري في العراق، ووساطة سياسية بين العرب وإسرائيل، بل وبين العرب أنفسهم، ودور ثقافي متنامي رأس حربته مسلسل "نور" الشهير.

ولم يكن لأي زعيم تركي في الماضي شعبية رئيس وزرائها الحالي رجب طيب أردوجان. قبل عشرة أعوام فقط كانت الصورة مختلفة تماما: الاتفاق الاستراتيجي التركي-الإسرائيلي كرس وضعية تركيا كأهم حليف لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، ومشاكل تركيا مع العرب تبدأ بسدودها على نهر الفرات وتـأثيرها على تدفق المياه لسوريا والعراق، ولا تنتهي بعضويتها في حلف الناتو، أو بحشودها العسكرية على الحدود مع سوريا وتهديداها باقتحام الأراضي السورية.

والغريب أن هذا التحول الدرامي في دور تركيا ومكانتها تم بدون "تغيير جذري" في سياساتها أو تحالفاتها الدولية، فلازالت تركيا عضوا في الناتو، ولازالت الشريك العسكري والاقتصادي الأهم لإسرائيل بعد الولايات المتحدة.

كيف فعلها الأتراك؟ كيف أمكن أن تكون تركيا عضوا في الناتو يحتفظ بالقدرة على رفض جعل أراضيه منطلقا للقوات الأمريكية الغازية للعراق عام 2003؟ كيف أمكنها ألا تمثل "التزاماتها التعاقدية" مع إسرائيل قيودًا على قدرة أردوجان على الذهاب إلى الحد الذي وصل إليه في نقد إسرائيل والخلاف مع شيمون بيريز بشكل جعله "بطل الأمة الجديد"!!

خمسة دروس على الأقل يقدمها هذا "التغيير المخملي الهادئ" الذي شهدته تركيا في العقد الأخير، وجعلها مرشحا جديا لدور قيادي في منطقة أخذ أصحابها "إجازة إستراتيجية" للتفرغ لمشاحناتهم القديمة العبثية، ومشاحناتهم المستحدثة (الصراع السني-الشيعي مثلا) التي تثير الذهول – في أكثر الصياغات تهذيبا – لفرط ما تعكسه من استلقاء تام خارج مسار التاريخ.

أولا: تم هذا التحول الكبير في دور تركيا برغم استمرار الصراع الداخلي العلماني/الأصولي الذي مثل تقليديا مصدر الأزمات والانقلابات العسكرية و"القضائية" المتكررة التي شهدتها تركيا في النصف الثاني من القرن العشرين بمعدل انقلاب كل عشر سنوات تقريبا. الأزمات الداخلية في تركيا لم تحل دون تحرك خارجي نشط.

بل إن الدور الإقليمي التركي مثل نقطة التقاء بين الفرقاء الداخليين وأساسا للتسويات داخلية بين علمانيين أرضى هذا الدور كبرياءهم الوطني، وأصوليين تلمسوا فيه بعضا من حنينهم لإرث الإمبراطورية العثمانية. الدور الإقليمي إذن لم يكن نشاطا ترفيا يمارس في "أوقات الفراغ الوطني" وبعد أن تنتهي المشاكل الداخلية التي يجب التفرغ لها، وإنما نشاط جوهري وضروري يمثل قاعدة لقاء لأقطاب الجماعة الوطنية بكل أطيافهم، ومصدرا لحل بعض خلافاتهم وأزماتهم الداخلية.

ثانيا: بالمقابل، فإن هذا الدور الخارجي النشط تأسس على قاعدة واضحة من الشرعية السياسية. فليس صدفة أن يتزامن تنامي الدور التركي الإقليمي مع بروز نظام سياسي يتمتع بشرعية لا لبس فيها أظهرتها انتخابات نزيهة عكست بصدق الإرادة الشعبية. فالشرعية واتساع قاعدة التأييد للحكم في الداخل مثلت الشرط الضروري لتوسيع هامش المناورة في الخارج وتعزيز القدرة على قول "لا" بدون قلق من محاولة أي طرف "مغرض" المزايدة على "الشارع التركي"!

ثالثا: أن التحالف مع الغرب (الأمريكي والأوروبي) لا يمنع الاشتباك السياسي الدائم لتحسين شروط هذا التحالف. فالحليف الذي اعتاد على سماع كلمة "نعم" لن يكون لديه مانع من استباحة كرامة وسيادة حليفه عندما تقتضي مصالحه (مثال: الاستباحة الأمريكية للأراضي الباكستانية في الأشهر الأخيرة). الدول لا تحب أو تكره، ولا تحفظ الجميل و تتذكر الصداقة "التاريخية". إن كان ثمة مشاعر بين الدول، فهي إما التهيب والاحترام الذي يملي أخذ مصالح "الحليف" في الحسبان، أو الاستخفاف المغري بتجاهل "الحليف"، والاكتفاء في أفضل الأحوال بإرضائه بكلمات مجاملة جوفاء لدوره "التاريخي"، وحكمة قيادته "وواقعيتها".

رابعا: بالمثل، فإن النقد التركي لإسرائيل خلال أزمة غزة، والانسحاب الشهير لأردوجان من مؤتمر دافوس، أظهرا أن "الالتزام التعاقدي" لتركيا مع إسرائيل لا يعني بالضرورة فقدان القدرة على نقدها والاشتباك السياسي معها. بل قد يكون أهم دروس هذه التجربة هو أن قدرة إسرائيل على تحمل النقد القاسي، بل "وابتلاع الإهانات"، وعجزها عن اتخاذ إجراءات عقابية سواء مباشرة أو عبر "فزاعة" نفوذها لدى القطب الأمريكي الأوحد، أكبر كثيرا مما يتصور أغلب "الواقعيين".

خامسا: يعرف المتابعون للوضع التركي أن مهندس هذا "التحول المخملي" هو أستاذ العلوم السياسية الشهير ومستشار أردوجان للعلاقات الدولية البروفيسور أحمد داود أوغلو، صاحب النظريات الشهيرة حول الموقع الاستراتيجي التركي كمركز لدوائر ثلاث (وسط آسيا، البلقان وأوروبا، والمشرق العربي) وليس كآخر نقطة "شرقا" في منطقة نفوذ الناتو أو حتى "جسر" بين الشرق والغرب.

دور أوغلو ونظرياته خطيران بشكل لا يتسع المقام لتفصيله، وقد يستحق العودة إليه في مقال آخر. ما يهمنا هنا هو أن تحولا بالعمق الذي شهدته تركيا استند على إسهامات السياسيين والدبلوماسيين والأكاديميين ونقاش موسع على صفحات الجرائد وفي مراكز البحث، ليذكرنا بأن قضايا الأمن القومي أخطر من أن تترك "للمختصين"، وإنما تكون محل نقاش موسع وجاد بين كافة أركان الجماعة الوطنية، دون أن يحتكرها "كهنة آمون" بدعوى الاختصاص الفني!


تعلمنا هذه التجربة التركية المثيرة أن الدور الإقليمي القيادي لم ينتظر "تغيرا جذريا" في النظام السياسي التركي. يكفي أن تكون هناك حكومة ذات شرعية شعبية حقيقية، تمتلك القليل من الإرادة، والكثير من الخيال المبدع الذي يمثل عصارة تفكير الجماعة الوطنية بكل أطيافها وليس "مختصيها الفنيين" أو "قادتها" فقط.

هذه هي عناصر "الوصفة التركية" لتغيير هادئ وواثق يعزز الأمن القومي والشرعية السياسية. ولا يوجد ما يمنع من أن تستفيد من هذه الوصفة أطراف أخرى باتت في أمس الحاجة لاسترداد "دورها الضائع" وترميم كبريائها الوطني الجريح.

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات