فى علم جمال المقاومة - داليا سعودي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 12:39 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى علم جمال المقاومة

نشر فى : الأربعاء 24 يونيو 2015 - 12:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 24 يونيو 2015 - 12:25 م

فى إجابة عن السؤالِ الأبسطَ والأصعب: من أنت؟ يجيب الأديب عبدالرحمن منيف قائلا: «أنا واحدٌ من ملايين الفقراء الذين يعيشون بين الماء والماء، على الأرض العربية الشديدةِ الغنى والشديدةِ القسوة فى وقت واحد. ولأنى هكذا، ولأن الحياة حولى هكذا، فقد امتلأتُ منذ الصغرِ بالتمرد والرفض».

ذاكم التمرد وذاكم الرفض هما ما يُظهران حجم التشابك بين عالمى السياسة والرواية فى مسيرة صاحب «مدن الملح». فلو أن كائنا فضائيا جاء يسألنى عن الأسباب التى حملت الشعوبَ العربيةَ على الانتفاض فى وجه حكامها فى ثورات الربيع، لاكتفيت بأن أضع بين يديه روايات عبدالرحمن منيف، التى صورت طبائع الاستبداد العربى، وفضحت الممارسات السلطوية الظالمة فى متوالياتٍ سرديةٍ غيرِ مسبوقةٍ فى جرأتها، وفى حسها التوثيقى الصادق. ولا مراء، فالرواية بحسب وصفِ منيف هى ذاكرةٌ ثانيةٌ للشعوب، تربط الأمس القريب بالأمس البعيد. ذاكرةٌ تقى حارتَنا آفةَ النسيان.

***

كان عبدالرحمن جامعة دول عربية فى صورة إنسان، سعودى الأب، عراقى الأم، مولودٌ فى الأردن، دراستُه الابتدائيةُ فى عَمَان، والثانوية فى بغداد، والجامعية فى القاهرة، ليرتحلَ من ثَم بين العواصم والأوطان. كلما آخى عاصمة، رمته بالحقيبة، وكأنه أحمدُ العربى، بطلُ ملحمةِ محمود درويش الشهيرة.

جاب عبدالرحمن الدنيا شرقا وغربا. دارسا لاقتصاد النفط، مشتغلا بالسياسة، مجربا مذاقاتِ المنافى، قبل أن يكتب عنها، مبدلا على التوالى قباعاتَه المهنية العديدة، من خبير نفطى فى سوريا، إلى مستشارٍ تنموى فى العراق، فصحفى فى بيروتَ وباريس، فلمَا تبينت له محدوديةُ آفاق العمل السياسى المباشر فى عالمنا العربى، وبعد أن حصَل كفايته من المعاينةِ النقدية ومن التجوالِ المتبصر فى شتى أرجاءِ العالم، حطَ راحلته بدمشق وتفرغ لبناء مجده الروائى.

***

فى التكوين النفسى لعبدالرحمن منيف، ثمة اتساق عضوى بين الإنسان النبيل والروائى المبدع، بين المثقفِ الملتزم والسياسيِ المقاوم. وهو فى كل أطواره يمارسُ ما يقول ويحتكم إلى منظومة أخلاقية ثابتة، تسعى بنزاهة وإصرار لبناء حداثةٍ اجتماعية عربية، تتأسس على العقل، وعلى الديمقراطية، وعلى التحرر الوطنى، وعلى ثقافة الحوار فى مجتمع مدنى، ينبذ التعصب، ويحترم المرأة، ويقوم على التعددية الحقيقية لا على المغالبة السلطوية الخبيثة.

تصنف روايات عبدالرحمن منيف إذن فى خندق الرواية السياسية المقاوِمة، التى يشبهها صاحبها بـ«ضربة إزميل» فى جدران السجون الكبيرة والصغيرة فى أوطاننا. ففى رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» (1973)، تتجاور الاخفاقات الشخصية والهزائم القومية الكبرى فى سردية ثنائية تنتهى بإدانة جيل بأكمله بالعجز والانكسار.

أما فى رواية «شرق المتوسط» (1975)، فيتَخذ موضوع التعذيب فى السجون السياسية أبعادا غيرَ مطروقة فى الرواية العربية، جعلت من صاحبها مؤسسا لما عرف بـ«أدب السجون». فبعد إرهاصات كالشذرات فى «العسكرى الأسود» ليوسف إدريس (1960)، و«تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم (1966)، تأتى رواية «شرق المتوسط» لتظهر كيف تحترف أنظمةُ الخرابِ البوليسية صناعةَ الإذعان، وكيف توسع نطاق معتقلاتها السياسية لتحتجز فيها شعبا بأكمله، شعبا بدا لفترةٍ أنه استمرأ هو الآخر صنعة العبودية قبل أن ينتفض.

وها هو منيف يكتب فيها بقلم يقطر أسى:
«إن الإنسان فى شرق المتوسط هو أرخص الأشياء، أعقاب السجائر أغلى منه، فلو نظرنا لحظة واحدة فى قعر سرداب من آلاف السراديب المنشورة على شاطئ المتوسط الشرقى وحتى الصحراء البعيدة، لرأينا بقايا بشر ولُهاثا وانتظارا يائسا».

***

لكن رغم جرأةِ الرواية وعنفِها السردى، وحدَتها اللغوية، يعترف الكاتب الصادق مع نفسه بأنه لم يذهب فى تجربته تلك إلى آخر المطاف. فيقول بعد عقدين من الزمان: «كنتُ رقيبا على نفسى أثناء كتابة شرق المتوسط». وهو ما حدا به إلى إعادةِ فتح ملف التعذيب فى السجون فى روايته «الآن.. هنا، أو شرق المتوسط مرة أخرى» (1991)، ليبلغ هذه المرة فى تصوير وضاعة الجلادين ووحشية الجرائم مبلغا من القسوةِ والإحاطة جعلت رفيق دربه سعدالله ونوس يكتب فى تقديمه للرواية صارخا:
«إن روايةَ عبدالرحمن منيف تمزق الصمت، وتعلن الفضيحة. هذه الأوطان ــ السجون فضيحة، وهؤلاء المواطنون ــ المساجين فضيحة. وهذا التاريخ الشرق أوسطى معتقلٌ يَستنقعُ فى الفضيحة. ورغم أن الرواية تلاحق هذه الفضيحة بتنوعاتها القطرية، وتعدد مستوياتها، فإنها تتعمد أن تكون قولا ناقصا، قولا لا يكتمل إلا إذا أضاف القارئ عليه موقفا أو فعلا».

***

... ثم يكتب عبدالرحمن «مدنُ الملح» (1984ــ1989).
خماسيةٌ مدهشة تقوم وترتفع شامخة مهيبة وسط الممالكِ الروائيةِ العربية.

ألفان وخمسمائة صفحة من التماهى الملحمى بين التاريخى والتخييلى. نكتشف معها أن ما أنجزه كاتبُها سالفا لم يكن إلا شحذا للقلم، وتدريبا للأدوات. ففى مسار الكبار الكبار، ثمة لحظةُ استنارة، تحتد فيها البصيرة، وتتبلور فيها الرؤية، ويصبح فيها المفكرُ قادرا على الإمساك بتلابيب الحقيقة، والروائيُ ممسكا بأهداب الخيال، والقلمُ متحررا من المُثقِلات، منسابا بوحى الإلهام وبِهَدى المعرفة.

تلك اللحظة، فى حالة عبدالرحمن منيف، أراها قد حانت عندما دخل فى مغامرته الصحراوية المتهورة، وكتب من منفاه الباريسى خماسيتَه الباهرة.

هنا يتبدى السجنُ بحجم الصحراء. وتتزاحم أشواق التحرر بعدد حبات الرمال. وتتعالى أناشيد الغضب فى وجه استعمارٍ عاد ليستخدم الثروةَ ضد أصحاب الثروة. وليُعملَ آلة التدمير فى المجتمعات التقليدية الحرة، ويؤسسَ لحالة من التبعية ومن القمع الهرمى تَرمى بمجتمعاتنا إلى مجاهل «التيه»، وتبقيها داخل نيران «الأخدود»، حتى تصلَ بها إلى «بادية الظلمات»..

هنا تتخذ روايةُ المقاومة أنساقا تعبيرية مركبة، فلا تقف عند حدود الطرح الموضوعاتى للمشكلات السياسية المتعلقة بثالوث الاستعمار، والديكتاتورية، والإسلام السياسى. بل تتعداها لترسم جمالياتِ روايةٍ سياسية تُطَبق ما تنادى به من ممارسات ديمقراطية، فتحولُ السردَ إلى ممارسةٍ كلاميةٍ تعددية، تعبِر عن المساواةِ المرجوة بين أفراد الشعب.

وقد كان عبدالرحمن منيف يؤمن بأن الديمقراطية «هى فى جوهرها العميق ممارسةٌ يومية تطالُ جميعَ مناحى الحياة. وهى أسلوبٌ للتفكير وللسلوك والتعامل وليست مجرد مظاهرَ أو أشكالا مفرغةَ الروح..». ولما كان الرجلُ – كما أسلفنا ــ لا يتجزأ، فقد أراد أن يكون أول من يطبق قواعد اللعبة الديمقراطية فى دولته: دولة الرواية.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات