التغير الثقافى فى الريف كان موضوع حوارا مع نخبة من أهله، مهنيين ومثقفين وإعلاميين منذ أيام فى «تلا» بمحافظة المنوفية. خلاصة النقاش أن الريف تغير ويتغير، لكنه تغير عشوائى غير مخطط له مما نتج عنه تشوهات عميقة. أبرز مظاهر التشوه وجود فائض بشرى كبير لا تستوعبه مشروعات انتاجيه مما يجعله يتجه إلى المدن أو دول الخليج أو أوروبا بحثا عن عمل، ثم يعود حاملاً معه قيما ثقافية مغايرة، وأحيانا مشاعر مختلطة دفينة تدفعه إلى المبالغة فى الاستهلاك، والرغبة فى الدخول طرفا فى لعبة التوازنات الاجتماعية فى القرية. يبنى بيتا فارها، يضاهى الفيلات والقصور، يجعله غريبا عما حوله من مبان حتى لو كانت بالطوب والخرسانة، ويتجه إلى استكمال الشكل الاجتماعى الجديد عن طريق مصاهرة عائلة كبيرة أو من فتاة تحمل مؤهلاً عالياً، وسمعت أن بعض الأسر لا تتجه إلى تزويج بناتها إلا بعد شهر يوليو حتى تضمن بأنها لن تكون من نصيب شاب ثرى حديثا عائد فى اجازة الصيف.
يقترن الاستهلاك البذخى بتراجع القدرات الإنتاجية للريف، وموضة استهلاك التكنولوجية ممثلة فى الإنترنت والمحمول، بينما أحوال القرى تتردى، والفقر يطحنها، والخدمات العامة فى حالة تراجع. التقييم المادى للعلاقات الاجتماعية صار واضحا، وهناك من يرى أن قطاعا كبيرا من العائلات يشغلها أن يوفر لها الأبناء «المال» لا أكثر.
أيا كانت هذه الملاحظات الاجتماعية، والتى قد يكون بعضها صحيحا، وبعضها مبالغ فيه، فإن الأمر المتيقن هو الصورة المشوهة للريف التى يمكن لأى شخص أن يلاحظها إذا وطأت أقدامه القرية المصرية، التى تعانى من غياب للخدمات الثقافية التى تحتكرها المدن، وهى حالة تجسد غياب المصطلح الرائج «العدالة الثقافية». وحتى إن وجدت مؤسسات ثقافية محدودة، فإن من يديرها يغلب عليه الطابع الوظيفى، وبعضهم – كما يقول الناس ــ عرف طريقة إلى الوظيفة عبر المجاملات، والعلاقات العائلية، والخدمات الانتخابية.
بالطبع نسمع من يقول إن الريف ينبغى أن يتغير، وأحوال الفلاح لا يصح أن تظل كما هى، فقد يكون غير متعلم لكن أبناءه صاروا أطباء ومهندسين، ومحاسبين، ومن حقه أن يعيش جودة حياة أفضل. نعم، نريد ريفا متقدما مثلما نراه فى أوروبا، لكن فى الوقت ذاته يظل على وظيفته الإنتاجية، متناسقا فى مستوى التقدم، يعيش حالة تفاعل أفضل مع البيئة المحيطة به، بحيث لا يتحول إلى مجرد صورة منسوخة مشوهة لمدن تعيش هى ذاتها حالة ترييف وعشوائية، بحيث لم تعد المدينة مدينة، ولم يعد الريف ريفا.
نقاش ممتع دعت إليه مكتبة الإسكندرية، ينبغى أن يكون محله ليس قاعة محدودة فى «منتدى التحرير» فى الدلتا الذى أقامته جمعية السادات للتنمية والرعاية الاجتماعية، ولكن يجب أن يمتد إلى وسائل الإعلام، والمنتديات العامة، ويدخل فى نسيج النقاشات التى تحيط بالسياسات العامة سواء فى دوائر الحكومة أو الأحزاب السياسية أو الجمعيات الأهلية.