«القاضي وجلّاده».. العدالة كلعبة شخصية - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:42 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«القاضي وجلّاده».. العدالة كلعبة شخصية

نشر فى : السبت 25 مارس 2023 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 25 مارس 2023 - 7:35 م

ما زالت أعمال الكاتب السويسرى فريدريش دورنمات (1921ــ1990) تثير التأمل والدهشة، وتجمع بين متعة الفكر والفن. لعبته أن يحكى عن شخصياتٍ من لحمٍ ودم، ويعالج أنواعا أدبية رائجة، ويحكى حواديت قد تبدو عادية ومألوفة، ولكنه يأخذها إلى مستوياتٍ فلسفية ووجودية عميقة، ويقدم معالجات مبتكرة، يغلفها بالجدية والعبثية والسخرية فى سبيكة واحدة، فلا تعرف بالضبط هل يلعب أم يسخر أم يتعاطف؟

أو لعله يفعل كل ذلك بضربةٍ واحدة، مثل لاعب بلياردو محترف.

خذ مثلا ترجمة سمير جريس الصادرة عن دار الكتب خان، لأشهر روايات دورنمات وعنوانها «القاضى وجلاّده»، وتأمل كيفية ترويض الكاتب لنوع الرواية البوليسية، وسخريته من النوع نفسه، والانطلاق إلى مناقشة أسئلة أهم عن القانون وتحقيق العدالة، وعن تعقّد العلاقات البشرية، وصعوبة فهمها أو التنبؤ بها، وعن اللون الرمادى الذى يسود العالم، بعيدا عن تبسيط الأبيض والأسود فى الروايات البوليسية.

ولكن الرواية نفسها مشوقة، وحافلة بالتفاصيل المتقنة، وفيها كل عناصر بناء أىّ رواية بوليسية، حيث الجريمة والتحقيقات، ورحلة جمع الأدلة، وتتبع المشتبه بهم، والعقبات التى تمنع الوصول إلى الجانى، ومفاجأة اكتشاف القاتل الفعلى، بل ومعرفته ومواجهته.

كل ذلك موجود فى «القاضى وجلاّده»، ومع ذلك فلا تشعر أبدا بالراحة التى تحققها الروايات البوليسية، بل على العكس، سشعر حتما بالقلق، وستبدأ الأسئلة مع كلمة النهاية، بينما تمنحك الروايات البوليسية كل الإجابات، وتغلق كل الأقواس، فتنام قرير العين، لأن عيون العدالة الساهرة، كشفت الجريمة، واقتصت من الجناة.

دورنمات يحطِّم كل ذلك بلا هوادة:

أولا بتحويل البحث عن لغز الجريمة، وتحقيق العدالة، إلى لعبة شخصية، وإلى رهان بين رجلين، ثم بنقل الاشتباه ثانيا إلى أحد منفذى القانون والعدالة، ثم يقوم ثالثا باختبار دورىْ القاضى والجلاد على نطاق أبطال اللعبة، فالمسألة ليست مجرد قاتل وجريمة، ولكنها تجسيد لفكرة الحكم على الآخرين، وتنفيذ الحكم أيضا، ويقوم رابعا بالجمع بين تعريف القارئ بشخصية القاتل، دون محاسبته أو عقابه بالطرق القانونية، فكأننا أمام «جريمة منزوعة العقاب»، وحتى عندما يتم عقاب مجرم يستحق القتل، تتم تصفيته على الجريمة الوحيدة التى لم يرتكبها!

هنا تفكيك كامل لمنطق الرواية البوليسية التقليدية (نموذجها الرفيع روايات أجاثا كريستى)، والقائم على فكرة القانون اليقظ الذى يحقق العدالة والقصاص، والقائم على لعبة لا مكان فيها للصدفة، والقائم أيضا على عدم وجود جريمة كاملة، وبالتالى لا يمكن أن تظل الجرائم غامضة.

هناك خطأ بشرى ما سيكشف كل شىء، ورجل البوليس هو الأذكى، ولذلك سيقدم المجرم للعدالة.
عند دورنمات هذا تبسيط ساذج، فالطبيعة الإنسانية المتشابكة يمكن أن تجعل من المستحيل أحيانا معرفة الجناة، وليس هناك فريق من الأخيار، وفريق من الأشرار، ولكن التناقضات داخل الجميع: الشرطة والمجرمين، والعدالة كلمة أشمل من القانون، لأنها صعبة ومراوغة ونسبية وغامضة، والواقع حافل بالمصادفات والعبثية التى تهدم أى منطق، أى إن لعبة العدالة جزء من لعبة الوجود الغامضة، والتى تحمل أسئلة، أكثر مما تقدم إجابات.

فى «القاضى وجلاّده» يتم اغتيال رجل شرطة داخل سيارته، ويتولى رجل بوليس مخضرم يُدعى برلاخ، ومساعده الضابط شانتس التحقيق، للكشف عمن قتل زميلهما.

حكاية بسيطة جدا ومألوفة، ولكن انظر ماذا فعل بها دورنمات؟

كلما توغلنا فى القضية، وجدناها تكشف عن تعقيداتٍ لا تخطر على بال:

فالقتيل كان مكلفا بمراقبة شخصية ثرية ونافذة تدعى جاستمان، والشخصية نفسها تنظِّم حفلاتٍ مشبوهة، تتضمن صفقاتٍ على مستوى دول وأجهزة، وبالتالى فإن برلاخ وزميله شانتس ليسا أحرارا فى فتح كل الملفات، أو فى توسيع دائرة الاشتباه.

ولكن الاكتشاف الأهم هو أن برلاخ فى رهان قديم مع جاستمان، فالأخير تحداه ذات يوم بأنه قادر على ارتكاب الجرائم دون أن يدينه أحد، بينما يؤمن برلاخ بأنه من المحتم كشف أى جريمة.

هكذا نكتشف أن رهان العدالة والقانون لعبة شخصية، كل طرف يريد إثبات نظريةٍ ما، وجاستمان يبدو فى النص كما لو كان يرتكب الجرائم بلا دوافع، سوى إثبات أن أحدا لن يدينه أو يعاقبه، إنه «شيطان معاصر» فى مهمة مقدسة، لتأكيد رسوخ فكرة الشر، بل ووجودها أصلا داخل البشر.

وبينما يتقن دورنمات حبكة وتفاصيل مقتل رجل الشرطة، ويقدم بحث برلاخ وشانتس عن القاتل بكل جدية، فإن مفاجأة النهاية، تعيدنا إلى العبث والسخرية، سواء بمعرفة هوية القاتل الحقيقى، أو بمعرفة مصير جاستمان، أو بعدم عقاب المجرم، أو بتحويل العدالة النموذجية من خلال المحكمة والقضاء، إلى عدالة قطاع خاص، قادمة أصلا من لعبة ورهان فى حانة للخمور!

هذا التأثير المروّع لمنهج دورنمات فى السخرية من العدالة البشرية، وفى تعرية نقائص النفوس البشرية، نجده فى أعمالٍ أخرى له، بجعل قرية بأكملها مستعدة للقتل والانتقام من عشيق امرأة عجوز مقابل المال (زيارة السيدة العجوز)، وجعل شيوخٍ سكارى يشعرون بالملل فيحاكمون ضيفا نزل عندهم (رواية العطل)، وجعل رجل شرطة يتابع قضية بجنون لمجرد أنه أعطى وعدا لأم طفلة قتيلة لم يعثروا على قاتلها (رواية الوعد).

فى هذه التنويعات المذهلة لفكرة العدالة كلعبة نسبية وغامضة، يضعنا دورنمات أمام أسئلة صعبة، مرة بتحويل البشر فى لحظةٍ إلى قضاة يدينون الآخرين، ومرة بهروب مذنب من العدالة، فيعوّض هو ذلك بقتل نفسه، ومرة بقيام ضابط شرطة بتحقيق الانتقام من قاتل باستخدام قاتل آخر، لأن القانون عاجز عن إثبات التهمة، أو لأن القاتل أذكى وأكثر احترافا من الأجهزة القانونية، أو لأنه وجد محاميا ماكرا، أو شخصيات نافذة تحميه.

البحث لا يحقِّق العدل، والإجراءات الرسمية تغلق دفاتر وهمية، والبشر أسرى طبائعهم المتناقضة، وأسرى مأزق الوجود.

فكيف يمكن أن ننام بعد قراءة دورنمات؟

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات