انتبهوا إلى فخ التمويل الاستهلاكى - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 6:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

انتبهوا إلى فخ التمويل الاستهلاكى

نشر فى : الإثنين 25 أبريل 2022 - 7:35 م | آخر تحديث : الإثنين 25 أبريل 2022 - 7:35 م
قبل أن تبدأ مصر فى تنظيم نشاط التمويل الاستهلاكى، وقبل أن تتواجد منافذ شركات التمويل الاستهلاكى أمام المتاجر الكبرى فى عموم الجمهورية، كنت قد حذرت من مخاطر ذلك النشاط من واقع خبرات شخصية نقلها لى أحد الأقارب أثناء عمله الدبلوماسى وإقامته بالأرجنتين.
تحت عنوان «قبل أن يفاجئنا الشراء على النوتة» نشرت لى الشروق الغراء مقالا فى عدد الثلاثاء 16 يناير 2018 تناولت خلاله تجربة بعض دول أمريكا اللاتينية فى هذا السياق، وخصصت الأرجنتين بالذكر نظرا لما عانته ومازالت تعانيه تلك الدولة من معدلات تضخم سنوية قياسية (بلغت أخيرا 52.3%) على الرغم من احتلالها المركز الأول فى الاكتفاء الذاتى من الغذاء على مستوى العالم، الأمر الذى يحد من فرص تعرضها للتضخم المدفوع باضطراب سلاسل الإمداد وحركة التجارة الخارجية لكثير من المجموعات السلعية المستهلكة على أراضيها. وقد كان قريبى ينقل لى معاناته مع سهولة عمليات الشراء مع الدفع الآجل، كونه يأتى بقرار يسير للغاية، ولا تظهر تبعاته إلا قرب نهاية الشهر مع انكشاف مركزه المالى بشكل غير متوقع.
فالدفع مؤجل وبلا فوائد تأخير أو مصاريف إدارية، لكنه يغرى بالمشترى أن يستهلك أكثر من قدرته الشرائية فى ظروف السداد النقدى، وبالتأكيد أكثر من إمكانات راتبه المقيد بإنتاجيته، وهو ما يترتب عليه أثران بالغا الخطورة. أولا على المستوى الكلى للاقتصاد، يخلق هذا الخط الائتمانى الجديد طلبا فعالا غير مدعوم بقوى شرائية حقيقية لتزداد معه فرص التعثر على نحو غير مسبوق، خاصة كلما كانت الظروف الاقتصادية غير مواتية وزاد عدد الفقراء، فلا أقل من تفشى ظاهرة الغارمين والغارمات بما يفوق قدرة الدولة والمجتمع على الوقاية منها أو علاجها. كما أن زيادة الطلب غير المدعوم بدخل ناشئ عن إنتاج يعنى ببساطة وجود فائض طلب، وعجز المعروض السلعى دون تلبية الطلب على كثير من السلع المشمولة بهذا النظام الائتمانى، مما يغذى التضخم برافد جديد مستمر فى دائرة مغلقة.
الأثر الثانى بالغ الخطورة والذى من المتوقع أن ينشأ عن انتشار نشاط التمويل الاستهلاكى أو «الشراء على النوتة» يستشعره المستهلك البسيط على المستوى الشخصى. التعثر والإفلاس والغرق فى دوامة من الديون هى باختصار بعض النتائج التى يمكن أن يجنيها المستهلك من التوسع فى «الشراء على النوتة» مهما بلغت درجة وعيه ومستوى تعليمه. بالتأكيد كلما انخفضت درجة الوعى وزادت حدة الفقر والنهم إلى الاستهلاك تكون النتيجة أكثر خطورة. فاختيارك بين بدائل السلع الكثيرة المتاحة فى المتاجر لابد أن يكون مقيدا بملاءتك المالية أو بتعبير آخر لابد أن تحده النقود التى تمتلكها فى محفظتك، فإذا اضطررت إلى السداد ببطاقة الائتمان فأنت تعلم يقينا أنك تتحمل تكلفة إضافية إن تأخرت عن سداد قيمة مشترياتك نقدا عن حد السماح، كما أن البنك الذى يتقن إدارة مخاطره يعلم تماما حجم الائتمان الذى يمكن أن يمنحه لكل عميل بعد دراسة وافية لجدارته الائتمانية، مما يحد من مخاطر التعثر والإفلاس. أما فى حالة التمويل الاستهلاكى المستحدث عبر الشركات المتخصصة (والتى يبدو أنها تحقق فى مصر توسعا كبيرا ونشاطا ملحوظا رغم حداثتها!) فإن المستهلك يحصل على التمويل بأقل قدر من الضمانات وبلا تكاليف إضافية فينفق من غير سعته.
• • •
وقد ربطت فى مقالى مطلع عام 2018 (المشار إليه آنفا) بين مظاهر الشمول المالى وبين مختلف صور السداد المؤجل فيما نصه: «الشمول المالى لن تقتصر مظاهره إذن على فتح مزيد من الحسابات المصرفية، وزيادة حجم القروض للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. سيتضمن الشمول المالى فيضا جديدا من التدفقات النقدية عبر المصارف، تلعب فيه أدوات الائتمان المختلفة دورا محوريا لزيادة التعاملات المصرفية، تماما كما لعبت الهواتف الذكية دورا مهما فى زيادة أعداد مستخدمى الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى بشكل خاص. هو نوع جديد من النقود الإلكترونية التى ربما تتحول عما قريب إلى نقود افتراضية بضمان مصرفى هذه المرة. تلك الحركة السريعة فى التدفقات النقدية يجب أن تواكبها حركة موازية فى الاقتصاد الحقيقى، وهى لا تأتى إلا بزيادة الإنتاج والإنتاجية. المصير الوحيد للتفاوت بين حجم المعروض النقدى والائتمانى من ناحية وحجم الناتج الفعلى من ناحية أخرى، هو مزيد من التضخم فى الأسعار مصحوبا بكساد فى الأسواق وتزايد معدلات البطالة، ذلك من أسوأ ملامح الكساد التضخمى».
أسباب وروافد التضخم كثيرة منها ما يتصل بجانب الطلب وتتجلى صورته فى زيادة النقود عن السلع والخدمات التى يعرضها المجتمع سواء ما تم إنتاجه محليا أو ما تم استيراده لسد الفجوة بين العرض والطلب. ومن روافد التضخم ما يتصل بالعرض، وأبرز تجلياته تتمثل فيما أصاب سلاسل الإمداد حول العالم من اضطرابات بسبب إغلاقات كوفيدــ19 وتقييد حركتى الشحن والنقل بغرض احتواء الأزمة، ثم اتصال تلك التداعيات بأزمة الحرب الروسية ــ الأوكرانية والتى مازالت فصولها تكتب دون توقع لما يمكن أن تنتهى إليه. كذلك صنعت أزمة كوفيدــ19 أثرا تضخميا مزدوجا إذ لم تؤثر على المعروض السلعى والخدمى فحسب، بل تسببت فى طفرة الطلب عام 2021 والمستمرة خلال العام الجارى بعد أن تم كبته بفعل الإغلاقات خلال عام 2020. وساعدت فترة الإغلاق على استحداث أنواع وأحجام جديدة من التسوق الالكترونى، كما عملت على تغيير نمط الاستهلاك نحو مزيد من السلع ذات الإشباع المباشر للحاجات مثل الأغذية والمشروبات، بعدما تراجع إنفاق الأموال على المتنزهات والأسفار وغيرها من أوجه الإنفاق. هذا كله وضع ضغطا كبيرا على السلع الاستهلاكية التى يحتاجها المستهلكون (أو يتوهمون الحاجة إليها) فى المنازل.
• • •
إذا كانت وسائل الدفع الالكترونى ومعها بطاقات الائتمان قد صنعت وهم الثراء والوفرة لكثير من أصحاب الدخول المحدودة، وإذا كان السداد المؤجل دائما ما يتم تفضيله عن السداد النقدى العاجل لسبب اقتصادى وجيه مفاده أن للزمن قيمة time value of money وأن النقود تخسر قيمتها مع الوقت بفعل التضخم، فإن التوسع فى نشاط التمويل الاستهلاكى، خاصة فى دولة مثل مصر تعانى من انخفاض الإنتاجية وحفز النمو بالاستهلاك لا بالاستثمار والإنتاج، من شأنه أن يضاعف من أثر الضغوط التضخمية على المستوى العام للأسعار فى بلدنا، ومن الضرورى والمنطقى أن تقيد الدولة هذا النشاط خلال فترات الأزمات الاقتصادية، وفى مقدمتها أزمات التضخم التى ضربت معظم اقتصادات العالم.
لم تكن مصر بمعزل عن تداعيات الأزمات العالمية، حيث تجاوزت معدلات التضخم السنوى النسب المستهدفة (7% زائد أو ناقص 2%) حين بلغت فى مارس الماضى 12.1%، مما حدا بالبنك المركزى إلى أن يبدأ ــ ما أظنه ــ سلسلة من قرارات الرفع لأسعار الفائدة، التى واكبت تحريكا جديدا فى أسعار الصرف، فضلا عن طرح شهادات ادخار عبر بنكى مصر والأهلى بمعدلات فائدة 18% لامتصاص فائض السيولة. ومن الضرورى أن تلتفت الحكومة إلى الأضرار الاقتصادية التى يمكن أن يتركها نشاط التمويل الاستهلاكى دون وجود ضوابط واضحة لإدارة مخاطر التعثر. بل من الضرورى وقف ذلك النشاط تماما أو تعطيله لحين مرور الجائحة التضخمية التى تعصف باقتصادات الدول العظمى، حتى إن الاقتصاد الأكبر فى العالم يشهد معدلا سنويا للتضخم غير مسبوق منذ أربعة عقود، كما أن أوروبا كلها تعانى من ذات الأثر، على الرغم من قدرة تلك الدول على تطوير هياكلها الإنتاجية لإشباع الحاجات المحلية أولا، وتقييد التصدير للتغلب على أزمات التضخم المعززة بنقص المعروض. هذا ما يضيف على الدول التى تعانى موازين تجارتها من عجز مزمن (مثل مصر) أعباء تضخمية جديدة، وكذلك يؤدى رفع أسعار الفائدة على الدولار إلى خفض فعلى للعملات الوطنية وزيادة لأعباء الدين الخارجى بما يضاعف من أزمات الاقتصادات الناشئة ويعجل بمخاطر تعثرها.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات