الصقور تطير بلا وقود فى الاتجاه الذى تختاره وفى الوقت الذى تشاء، دون أن تطلب إذنا من الحكومات التى تظن أنها سيدة السماء. ترددت فى رأسى هذه الفكرة وأنا أتابع الضربات المتتالية فوق غزة وقد تحول القتل إلى متعة، غير مهم أن تكون الضحية طفلا أو فرخ بط أو ناشطا. أرى الطائرات التى ترتفع فى الجو بجناحين كما تطير الصقور، فبعض تصاميم هذه المركبات الحربية الضخمة مستوحاة منهم ومن سرعة انطلاقهم ووضعية الطيران لمسافات طويلة. يستطيع الجندى الركوب فيها والتحليق فوق الأعداء ليقذفهم بما يهلكهم دون أن يمسه أذى، بصفته واحدا من الدخلاء الذين جاءوا لأخذ الأرواح والأراضى.
بعد هجوم السابع من أكتوبر، استعانت إسرائيل بالطيور الجارحة للبحث عن قتلاها، بحسب ما ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت، وذلك بتثبيت أجهزة تتبع على الصقور، وفى بعض الحالات رصدت الصقور تحوم فى مناطق وجود الجثث. أما كتائب القسام، فقد بثت مشاهد حصرية لسرب «صقر»، إحدى الوحدات العسكرية التى شاركت فى عملية طوفان الأقصى، وأكد بعض المحللين أن ما حدث دمر صورة بنيامين نتنياهو (74 عاما) الذى بنى سمعته كواحد من الصقور المتشددين على مدى السنين منذ أن شارك فى تحرير ركاب إسرائيليين كانوا على متن طائرة مخطوفة فى مطلع السبعينيات، وأمضى بعدها ما يزيد على أربعة عقود فى دوائر السياسة والسلطة حتى ترأسه لحكومة يمينية تعد الأكثر تطرفا فى تاريخ الدولة العبرية، دفعت بالجميع إلى طريق مسدود.
• • •
خبراء السياسة والاقتصاد ينافسون على ما يبدو لافونتين كاتب القصص الخرافية التى تدور أحداثها على ألسنة الحيوانات والطيور، وقد ترك لنا منذ القرن السابع عشر الميلادى العديد من الحكايات التى ما زلنا نرويها وندرسها للصغار. عالم الكبار بكل قسوته استخدم كثيرا تقسيمات الصقور والحمائم لوصف مواقف البعض المتشددة التى تصل إلى التطرف أحيانا فى مقابل من ينشدون التفاهم ويظهرون شيئا من المرونة. يقال إنه بالنسبة لإسرائيل الفوارق بين المجموعتين صارت غير واضحة المعالم، ففى السياسة لا يوجد أبيض وأسود والأمور دائما أكثر تعقيدا وتشابكا، ويقال أيضا إن الحمائم يوافقون على حل الدولتين والانسحاب من بعض الأراضى بدافع العنصرية والحفاظ على نقاء الدولة اليهودية، لكن على كل حال هم يبدون ــ إن وجدوا ــ أكثر ليونة فيما يتعلق بالاستيطان والتفاوض حول المساحات المحتلة، حتى لو لم يشبهوا تماما حمامة السلام البيضاء التى رسمها بيكاسو عام 1949 وهى تحمل غصن الزيتون بمنقارها.
تستخدم طيور وحيوانات أخرى لتوصيف سياسات وتوجهات بعينها، فيلقب فريق من الدبلوماسيين الصينيين مثلا باسم «الذئاب المحاربة»، تيمنا بسلسلة أفلام رائجة تحمل الاسم نفسه صورت أبطالا صينيين يهزمون الأعداء الأجانب باختيار المعارك فى كل مكان من البرازيل إلى غينيا الجديدة، ويطلق على الذراع العسكرية غير الرسمية لحزب الحركة القومية التركية، المناصر للرئيس أردوغان، تنظيم «الذئاب الرمادية». لكن تظل الصقور والحمائم هى الأكثر انتشارا فى الأوساط السياسية والاقتصادية، ومن المصطلحات المستمرة عبر العصور، فهى ذائعة فى الاقتصاد، تحديدا داخل المؤسسات المالية الكبرى، للتمييز بين من يؤيدون رفع سعر الفائدة والسيطرة على معدلات التضخم، ومن يعتمدون سياسات أقل حدة بهذا الصدد ويفضلون الحفاظ على معدل فائدة منخفض بهدف تشجيع الاستثمار والنمو الاقتصادى. وهى ذائعة أيضا تاريخيا فى مجال السياسة الدولية الذى يشمل ثلاثة تيارات كبرى أنجلوسكسونية النشأة: الأممية الليبرالية (الحمائم)، الواقعية (الصقور)، البنائية الاجتماعية (البوم). أى إننا نحيا عالميا منذ عقود فى ظل سياسات الحمائم والصقور والبوم، لأن هذه النماذج الثلاثة هى التى حكمت السياسة الخارجية الأمريكية منذ بدايات القرن العشرين.
• • •
التيار الأول برز مع انتهاء الحرب العالمية الأولى بعد إرهاصات سبقتها بقليل، أملا فى تحقيق توازن على الصعيد الدولى وضمان السلام والاستقرار، بدلا من ويلات الصراع. استلهم الحمائم أفكار بعض فلاسفة عصر الأنوار وتحديدا إيمانويل كانط فى كتابه «من أجل سلام دائم: تصميم فلسفى» عام 1795، وتوصلوا فى النهاية إلى تأسيس «عصبة الأمم» عام 1919، الكيان المؤسس لمنظمة الأمم المتحدة فيما بعد. تقوم مبادئ هذه الحركة على نقطتين رئيسيتين: أولا، أن المنظمات الدولية يجب أن تحقق اتفاقيات متعددة الأطراف بين الدول بما يعزز الديمقراطية الليبرالية. وثانيا، أن هذه المنظمات ممكن أن تتدخل فى دول أخرى من أجل تحقيق أهداف ليبرالية قائمة على الحرية والمساواة، سواء كان هذا التدخل بتقديم المساعدات الإنسانية أو الوساطة والمفاوضات والتحكيم الدولى. وهى تختلف على هذا النحو مع التيار الواقعى الذى يمثله الصقور والذى يقضى بتغليب المصالح والعقلانية والاعتماد على الذات وهاجس الأمن والبقاء، ويعتبر أن الحرب ما هى إلا استمرار للسياسة لكن بطرق ووسائل أخرى.
أنصار التيار الواقعى مثل هنرى كيسنجر وجورج كينان يرون أن العالم يتطور بشكل فوضوى، الأمر الواقع يطغى فيه على القانون الدولى، وهو ما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية التى فشلت «عصبة الأمم» فى إخمادها وساعد على صعود الفاشية والنازية، وبالتالى يجب البحث عن امتلاك القوة بما يسمح بحماية المصالح سواء تأتى ذلك بالحرب أو بألعاب دبلوماسية سرية أخرى. ساد هذا التيار بالفعل طوال فترة الحرب الباردة، وفى هذه الأثناء بدأت تتضح ملامح «البنائية الاجتماعية» منذ سبعينيات القرن الفائت كرد فعل لتيار الواقعية، حتى تبلورت أفكارها وانتعشت أكثر خلال التسعينيات وفترة رئاسة بيل كلينتون.
• • •
الطائر الذى يمثل هذا التيار الأخير هو البومة، ويقوم على الدمج بين القوة الناعمة بأشكالها المختلفة مثل الثقافة والتاريخ والسرديات والجوانب الجذابة وبين القوة الصارمة المتمثلة فى الإمكانات العسكرية والسلاح والقدرة على الردع. أحد أهم مهندسى هذا التيار هو جوزيف ناى مؤلف كتاب «القوة الناعمة وسيلة النجاح فى السياسة الدولية»، الذى شغل منصب مساعد وزير الدفاع فى حكومة بيل كلينتون ورئيس مجلس المخابرات الوطنى.
الدبلوماسية الأمريكية سوزان نوسل كانت أيضا ضمن من تناولوا الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية وشاركوا فى تشكيل وجهها الجديد، إذ ساهمت فى بلورة مفهوم «القوة الذكية» مع جوزيف ناى، وقد حكم هذا المفهوم فترة إدارة أوباما وسياسة هيلارى كلينتون الخارجية. كان ذلك عهد البوم بامتياز، هذه الطيور الكاسرة التى تشبه الصقور بمناقيرها ومخالبها المعقوفة، هى طيور ليلية بخلاف الصقور فهى نهارية، إلا أن كليهما يمتاز بقدرة كبيرة على الصيد والقنص والتعايش فى أماكن متفرقة حول العالم.