الشجار محتدم فى مصر، بل هى حرب حامية الوطيس، بين طرفين استبد بكل منهما الغضب على الآخر، ولا يكف عن أن يوجه لهذا الآخر، أعنف أنواع السباب، مقترنا أحيانا بإشعال الحرائق أو الضرب أو القتل.
كلنا نعرف بالضبط من هما طرفا هذا الشجار، ولكن من أصعب الأمور الاتفاق على تسميتهما. فإذا سميت أحدهما بالتيار الدينى، أو المتدينين، ووجهت باعتراض وجيه مداره أنه ليس كل المتدينين بهذا التعصب، بل ليس كل متدين يكره أصحاب الدين الآخر أو يضمر له شرا.
وإذا سميته بالإسلامى ووجهت بنفس الاعتراض «إذ ليس كل المسلمين متطرفين إلى هذا الحد» فضلا عن الاعتراض بأن هذا التشدد ليس مقصورا على دين دون آخر، فهناك من الأقباط من يبدى هذا التشدد ويحمل للطرف الآخر نفس المشاعر العدائية. وإذا سميته أنصار الدولة الدينية، اعترض عليك بأن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية، وأن التاريخ الإسلامى لم يعرفها إلا خلال فترة قصيرة بعد ظهور الإسلام، انتهت بانتهاء عصر الخلفاء الراشدين.
كذلك فيما يتعلق بالطرف الآخر فى الخصومة. قد نسميه التيار الداعى للدولة المدنية، ولكن قد يعترض على ذلك بأن وصف الدولة بالمدنية قد لا يعبر عن الموقف الحقيقى لهؤلاء، إذ قد يختلط معنى الدولة المدنية بمعنى المجتمع المدنى.
بل يذهب بعض أنصار الطرف الأول إلى وصف الطرف الآخر بأنهم ينادون بالدولة المدنية ليس إلا حيلة لتجنب وصفهم بالعلمانيين، الذى هو وصفهم الصحيح فى رأيهم، إذ إن وصف العلمانى يثير فى نظر الكثيرين شبهة اتخاذ موقف عدائى من الدين بأسره.
التسمية فى حد ذاتها مشكلة، ولكن مهما اختلفنا فى التسمية فكلنا يعرف أن هناك خصومة حقيقية بين طرفين من حيث موقف كل منهما من علاقة الدين بالسياسة: طرف يدعو إلى أن يكون المرجع فى اتخاذ القرارات السياسية هو الشريعة الإسلامية، وأن يعلن ذلك صراحة، وطرف يدعو إلى تحرر متخذ القرار السياسى من الإعلان المسبق لهذا الالتزام دون أن يمنع ذلك من استلهام مبادئ الشريعة الإسلامية فى اتخاذ القرارات ووضع القوانين.
ما سر هذا الخلاف إذن، وما مغزاه؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال لابد أن نختار اسما مختصرا لكل طرف «رغم صعوبة ذلك كما ذكرت» وليكن اسم «تيار الإسلام السياسى» للطرف الأول، واسم «التيار العلمانى» للطرف الثانى، على أن يكون المفهوم أن المقصود بمضمون الموقفين هو ما ذكرته حالا، لا أكثر ولا أقل. فالذى أقصده بـ«تيار الإسلام السياسى» هو الدعوة إلى الالتزام بالشريعة الإسلامية، ولكن لا يعنى بالضرورة الدعوة إلى فرض الحجاب أو النقاب بالقوة، أو فرض الجزية على الأقباط، إذ إن اتخاذ هذا الموقف أو ذاك من الحجاب أو النقاب أو الجزية يتوقف على نوع تفسيرك للشريعة الإسلامية. والذى أقصده بالتيار العلمانى، هو أن يتحرر راسمو السياسة وواصفو القوانين من إعلان الالتزام بالشريعة الإسلامية، وليس بالضرورة استبعادها أو رفضها ناهيك عن التنكر للدين برمته.
دعنا نتفق أيضا على أنه توجد مساحات شاسعة من ميادين السياسة الخارجية والداخلية، الاقتصادية والاجتماعية، يسهل تصور اتفاق الطرفين عليها، كما أن هناك مساحات شاسعة من هذه الميادين يسهل تصور وجود اختلافات قوية عليها فى داخل كل من هذين التيارين. والأمثلة التى يمكن تقديمها على هذا أو ذاك كثيرة جدا.
فالمنتمى إلى تيار الإسلام السياسى يمكن مثلا أن يدعو إلى التحرر من السيطرة الأمريكية، ومن التبعية عموما لأى قوة خارجية، كما يمكن أن يدعو العلمانى إلى نفس الشىء. هذا يمكن أن يتفقا عليه، كما يمكن أن يتفقا على أن الوحدة العربية، اقتصاديا وسياسيا، فى مصلحة العرب، وأن معاهدة الصلح التى عقدها أنور السادات مع إسرائيل فى 1979 لم تكن فى مصلحة مصر أو العرب، وعلى أن وجود قطاع عام قوى يخدم قضية التنمية، وأن نظام الضرائب التصاعدية مطلوب لتحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية.. الخ.
ولكن من الممكن جدا أيضا أن نتصور أن يتفق شخص منتم إلى تيار الإسلام السياسى مع شخص منتم للتيار العلمانى على عكس هذا بالضبط، أى أن يتفقا على أن التحالف مع أمريكا شىء مفيد، أو أن الوحدة السياسية بين الدول العربية تضر بتقدم العرب، أو أن التصالح مع إسرائيل كان مفيدا لمصر والعرب، أو أن تغليب القطاع الخاص على العام أفضل للتنمية.. الخ.
من ناحية أخرى، من الممكن جدا أيضا أن تجد شخصين داخل تيار الإسلام السياسى يتخذان موقفين مختلفين إزاء أى قضية من هذه القضايا، وشخصين داخل التيار العلمانى يختلفان أيضا حول أى قضية منها.
السبب فى إمكانية الاتفاق بين شخصين ينتميان إلى التيارين المتخاصمين، وإمكانية الاختلاف بين شخصين ينتميان لنفس التيار، يرجع فى رأيى إلى أن هناك مسائل كثيرة مما يواجهنا فى العالم المعاصر لم تتخذ الشريعة الإسلامية منها موقفا، أو أن الموقف الذى اتخذته منها يمكن تفسيره وفهمه بأكثر من معنى، ومن ثم يمكن أن يتفق اثنان على تحكيم الشريعة ويختلفان على التفسير والفهم، كما يمكن أن يتفق اثنان ينتمى أحدهما لتيار الإسلام السياسى، والآخر للتيار العلمانى، بسبب لجوء كل منهما إلى استيحاء مبادئ من خارج الشريعة الإسلامية ولكنها لا تتعارض معها، أو بسبب اتفاق التفسير الذى يعطيه أحدهما للشريعة، مع رأى العلمانى.
إننى لا أقول هذا القول جزافا، أو كمجرد تصور نظرى، فالذى نسمعه ونراه بالفعل من أشخاص محترمين ينتمون إلى هذا التيار أو ذاك، يؤيد ما أقول، حيث نرى مواقف متشابهة فى السياسة الخارجية، وفى الموقف من إسرائيل، ومواقف أقرب إلى الاشتراكية، وأخرى إلى الرأسمالية، تصدر من أشخاص ينتمون إلى التيارين المتصارعين، كما نرى اختلافات شديدة فى هذه المسائل وغيرها داخل كل من التيارين.
إذا كان الأمر كذلك، فما أصل الخلاف بين الطرفين إذن؟ ولماذا يصل الخلاف إلى ما نراه من حدة وغضب، بل أحيانا إلى درجة الكراهية؟
إننى لا أجد تفسيرا لهذا الخلاف إلا الخلاف حول موضوع «الهوية». تيار لا يكف عن ترديد أن هويته إسلامية، والآخر لا يفعل ذلك لأحد سببين: إما لأنه ليس مسلما، أو لأنه يخشى أن يؤدى تحديد هوية الدولة على هذا النحو إلى تطبيقات وتفسيرات معينة للشريعة الإسلامية لا يوافق عليها «وإن كان مستعدا لقبول تفسيرات أخرى»، فيما يتعلق بمعاملة أصحاب الأديان الأخرى، مثلا أو بمعاملة المرأة، أو بالعقوبات المفروضة على بعض الجرائم، أو ببعض المعاملات الاقتصادية.. الخ.
أعود فأكرر أن الخلاف بين التيارين ليس فى الحقيقة خلافا حول مواقف معينة من هذه الأمور، إذ إن المنتمين لتيار الإسلام السياسى لا يتفقون دائما على مواقف محددة منها. والمنتمون للتيار العلمانى لا يعرفون، بالتالى، على نحو اليقين، ما سوف يحدث بالضبط إذا استولى تيار الإسلام السياسى على مقاليد الأمور. وإنما الخلاف هو على الإصرار على إعلان هوية معينة من جانب، وخوف من الجانب الآخر مما يمكن أن يعنيه وضع هذا الإعلان عن الهوية موضع التطبيق.
ولنضرب مثالا واحدا من كثير من الأمثلة الممكنة. الإسلام يحرم الربا، هذا لا شك فيه. ولكن ما هو بالضبط الربا المحرم؟ تختلف فى ذلك الآراء. وقد سمعت وقرأت عن مواقف متضادة من بين المنتمين للتيار الإسلامى حول ما إذا كان من المقبول أو غير المقبول دفع البنوك فوائد على القروض، أى حول ما إذا كان دفع هذه الفوائد يعتبر أو لا يعتبر من قبيل الربا. فإذا كان من العلمانيين من يعتقد أن إلغاء الفائدة على قروض البنوك له أضرار اقتصادية تفوق منافعه، فإنه لن يوافق على تحديد معنى الربا بحيث ينطبق التحريم على هذه الفوائد.
ولكن هذا الموقف من جانبه لا يميزه عن جميع المنتمين لتيار الإسلام السياسى بل عن بعضهم فقط. وقل مثل هذا عن احتشام المرأة: ما هى الدرجة المطلوبة فى الاحتشام مما يجوز فرضه بقانون. هل ارتداء الحجاب مع رداء طويل يعتبر احتشاما كافيا، أم لابد من النقاب؟ وكذلك هل يجب تطبيق منع شرب الخمر على المسلمين فقط أم يطبق على غير المسلمين أيضا من الأجانب وغيرهم؟
ليس هناك اتفاق على تفسيرات واحدة من أحد الجانبين، ومن ثم ليس هناك معرفة كاملة لدى الجانب الآخر، بالتفسيرات التى سوف يجرى تطبيقها.
وغياب اليقين على هذا النحو، أو غياب المعرفة الكاملة لدى أصحاب التيار العلمانى بما يمكن أن يسفر عنه انتصار تيار الإسلام السياسى، هو الذى يقود معظم العلمانيين إلى رفض إقحام الدين فى السياسة، أى رفض تبرير السياسة بالدين، وليس رفض الدين نفسه، إذ يرون أن الأفضل أن يجرى اختيار وتبرير أى سياسة ما بناء على المقارنة بين الفوائد والأضرار المحتملة، فى كل حالة على حدة. فلا يكون تبرير تطبيق قاعدة قانونية أو سياسة معنية مستندا إلى نص دينى أو قول مأثور، بل يفسر النص الدينى نفسه، والقول المأثور، طبقا للحكم العقلى وبما تقضى به المصلحة، فى كل ظرف على حدة.
عندما يرفض أصحاب تيار الإسلام السياسى هذا الموقف من جانب العلمانيين، لا يمكن أن يكون أساس هذا الرفض شيئا غير التمسك بالهوية، أى الخوف من أن ينطوى الموقف العلمانى على استهانة بالدين وشريعته، أو عدم تبجيلهما بالدرجة الكافية. لهذا أقول إن أصل الخلاف فى الحقيقة خلاف حول «الهوية»: جانب يؤكد باستمرار على ضرورة إعلان هوية معينة والتمسك بها، وجانب آخر يرى أن احترام الهوية لا يتطلب بالضرورة لا الإعلان المستمر عنها ولا أن تكون هى المقياس الوحيد لتحديد السياسة المثلى.
بهذا فى رأيى يمكن فهم اشتعال المعركة والتهاب العواطف حول المادة الثانية من الدستور التى تقول إن الشريعة الإسلامية هى المصدر الأساسى للتشريع.
أصحاب تيار الإسلام السياسى يصرون بالطبع على بقائها ويحذرون من أى مساس بها، بينما يفضل كثير من العلمانيين صيغة أخرى، كالنص على اعتبار الشريعة الإسلامية «مصدرا أساسيا» بدلا من اعتبارها «المصدر الأساسى» للتشريع، أو أن تضاف عبارة أو عبارات أخرى إلى النص القائم حاليا، تمنع تفسير هذه المادة تفسيرا ينطوى على عدم رعاية أصحاب الديانات الأخرى رعاية كافية. كثير من العلمانيين عبَّروا، بصدق فى رأيى، عن تفضيلهم ترك المادة الثانية على ما هى عليه، خوفا من أن يؤدى أى تغيير فيها مهما كان طفيفا، إلى إثارة فتنة نحن فى غنى عنها.
ولكن اختلاف موقف التيارين من هذه المادة هو اختلاف حقيقى ولا يجب إنكاره، وهو اختلاف يصب فى رأيى فى موضوع «الهوية».
إذا كان الأمر كذلك، فإن لنا أن نتساءل: هل يجوز أن يكون الخلاف حول «تحديد الهوية»، هو شاغلنا الأساسى الآن، فى خضم المشكلات العويصة التى نواجهها، والمتاعب والمصاعب التى يمر بها الوطن مثل الاعتداء الإسرائيلى الأخير؟ إن الصورة تبدو مؤسفة للغاية، وهى تشبه فى رأيى صورة رجلين اشتبكا فى مشاجرة عنيفة، وتبادلا السباب والضرب، وهما فى أقصى درجات الغضب والهياج، بينما يشتعل حريق فى المنزل الذى يشترك الاثنان فى سكناه، وذلك لمجرد أن أحد الرجلين تفوه بعبارة فهمها الآخر بأنها لا تحمل احتراما كافيا له، فإذا بهما يتركان الحريق وينشغلان بتبادل الاتهامات والإهانات؟
إننى لا أخفى على القارئ أننى عندما أرى سير الجدل «بل العراك»، بين أصحاب تيار الإسلام السياسى والتيار العلمانى، تطوف بذهنى أحيانا صورة إسرائيلى يتابع ما يحدث عندنا يوما بيوم، ويقرأ ما يكتبه أنصار كل من التيارين عن أنصار التيار الآخر، ويقرأ النقاش الدائر حول ما إذا كانت هناك نية مبيتة لإلغاء المادة الثانية من الدستور أو الإبقاء عليها كما هى، أو إدخال بعض التعديلات عليها، أو حول ما إذا كانت الشريعة الإسلامية يجب أن توصف بأنها المصدر الأساسى للتشريع، أو يكفى أن توصف بأنها مصدر أساسى له، على الرغم من أن إلغاء حرفى الألف واللام، أو الإبقاء عليهما، لن يؤثرا قيد أنملة على اتخاذ الموقف الوطنى السليم من أى مشكلة مهمة من المشاكل التى تواجههنا، فلن يؤثر مثلا عما إذا كنا يجب أن نبقى ملتزمين بقواعد معاهدة كامب ديفيد أو أن نحاول إلغاءها أو تعديلها.
أقول لنفسى حينئذ: ما عسى أن يقوله هذا الإسرائيلى لنفسه وهو يتابع هذا العراك؟ وأى فرح غامر لابد أن يملأ قلبه كلما قرأ عنه أو سمع به؟ وأى نهاية مأساوية يمكن أن يئول إليها حالنا إذا لم نتوقف عن مثل هذا الجدل، ولم نلتفت إلى أمور أكثر نفعا، فنتناقش بدلا من ذلك حول الموقف المحدد المطلوب فى كل قضية على حدة؟