بين الطهطاوى وأحمد أمين - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الثلاثاء 10 ديسمبر 2024 4:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين الطهطاوى وأحمد أمين

نشر فى : السبت 26 أكتوبر 2024 - 6:50 م | آخر تحديث : السبت 26 أكتوبر 2024 - 6:50 م

- 1 -
من المفارقات اللافتة التى توقفت عندها وأنا أعد كتابًا جديدًا للصدور فى سلسلة «اقرأ» العريقة، تلك العلاقة الظاهرة بين رجلين من رجالات النهضة والفكر فى مصر الحديثة والمعاصرة.. لم ألتفت إلى تلك العلاقة من قبل ولا عمقها، على كثرة من قرأتُ عن الرجلين، ولهما، وعن سيرتهما لما يقرب من ربع القرن!
أتحدث عن الشيخ الجليل رفاعة الطهطاوى (1801-1873) رائد الفكر المصرى والعربى الحديث، ومؤسس النهضة الثقافية العلمية الشاملة التى شهدتها مصر فى القرن التاسع عشر، وامتدت آثارها الحميدة إلى منتصف القرن العشرين.
وأما الرجل الثانى فهو العلامة النهضوى الكبير أحمد أمين (1886-1956) صاحب الموسوعة الأكبر والأشهر فى تاريخ الثقافة العربية والإسلامية؛ «فجر الإسلام»، و«ضحى الإسلام»، و«ظهر الإسلام»، و«يوم الإسلام».
- 2 -
كلاهما من مواليد شهر أكتوبر (الأول مواليد 15 أكتوبر 1801، والثانى مواليد الأول من أكتوبر 1886) كلاهما انتسب للأزهر الشريف وتلقى العلم فيه، وكلاهما تأسست ثقافته ومعرفته على الأصول والروافد الإسلامية الخالصة، وكلاهما اتصل بالثقافة الغربية الحديثة، وتعرف إلى أفكار التمدن والمدنية والدولة الحديثة والعلم الحديث، الأول بسفره إلى فرنسا وإتقانه الفرنسية، والثانى وإن لم يقضِ سنواتٍ طويلة فى أوروبا لكنه أتقن الإنجليزية وقرأ بها وترجم عنها.
وكلاهما أسهم إسهامًا عميقا وأصيلا فى عملية التعليم وإخراج تلاميذ مؤهلين للدرس والبحث والتدريس والتأليف، كلاهما كان معلما شارحا من طراز فريد، كلاهما كان له تلاميذ كبار استلموا الراية وأشاعوا المعرفة ونشروا نور العلم فى ربوع البلاد وبين العباد. وكلاهما أسهم إسهامًا عميقا وأصيلًا فى ترسيخ أسس جديدة ومعاصرة فى إعادة قراءة واكتشاف تراثنا الإسلامى والعربى، وإعادة كتابة تاريخه فى العموم (الطهطاوى بمحاولته الرائدة لكتابة سيرة نبوية معاصرة فى «نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز»، وأحمد أمين فى موسوعته الباذخة المشار إليها أعلاه لتأريخ الحياة العقلية والفكرية للمسلمين فى القرون العشرة الأولى للهجرة)، فضلًا عن المحاولة «التوفيقية» فى الجمع بين أصلح ما فى الثقافتين الإسلامية، والغربية الحديثة، لواقعنا المعاصر ولمستقبل الأبناء والأحفاد.
- 3 -
تلك هى الخطوط العريضة التى يمكن أن نشير إليها فى العلاقة بين الرجلين، وحيث إنهما لم يلتقيا أبدًا فقد رحل الطهطاوى عن عالمنا قبل ميلاد أحمد أمين بثلاث عشرة سنة، لكن هذه الفترة فى عمر الرجال والبلاد ليست طويلة، بل على العكس سنكتشف من قراءة ما كتبه أحمد أمين عن رفاعة الطهطاوى (سينشر هذا النص المهم والنادر فى سلسلة «اقرأ» عن دار المعارف خلال الأسابيع القليلة القادمة) أن معاصرة أمين لآثار الطهطاوى وتلامذته واتصاله اتصالًا مباشرًا بمقربين منه أو من سمعوه مباشرة أو تتلمذوا على يديه.. كل ذلك أتاح لأمين أن يكتب ترجمة وافية ودقيقة، وتكاد تنفرد برواية وقائع وأحداث لم ترد فى كتاب آخر من الكتب التى أرخت وترجمت للطهطاوى على كثرتها.
الكتاب الذى نتحدث عنه عنوانه «الشيخ رفاعة الطهطاوى ـ مؤسس النهضة الحديثة»، بقلم العلامة أحمد أمين، وهو نص نادر ينشر للمرة الأولى بين دفتى كتاب، وفيه ترجمة شخصية ممتازة وتفاصيل دقيقة عن شيخنا المستنير رفاعة الطهطاوى منذ الميلاد، وحتى رحيله عن عالمنا فى 1873..
وفصول الكتاب الست تمثل فى أصلها سلسلة من المقالات التى نشرها أحمد أمين فى مجلته ذات الأيادى البيضاء على تاريخ الثقافة العربية (الثقافة) على ست حلقات فى عام 1943، جمعها فى الجزء الخامس من كتابه «فيض الخاطر» (فى عشرة أجزاء). وقد ترجَم فيها للشيخ رفاعة الطهطاوى معتبرًا إياه «مؤسس النهضة العلمية الحديثة».
- 4 -
وقد لفتنى أنه لم يضمِّن مقالاته الممتازة هذه كتابَه القيم «زعماء الإصلاح فى العصر الحديث» الذى جمع فيه مقالاته المشابهة ودراساته المعمقة عمن اعتبرهم أو قيَّم أعمالهم بوصفهم "زعماء الإصلاح"، وقد أعيانى البحث عن السبب الذى من أجله لم يضمن أحمد أمين مقالاته عن الطهطاوى كتابَه هذا، وإن كنت أرجح أنها سقطت من باب السهو أو لم ينتبه لها حين جمع فصول كتابه «زعماء الإصلاح»، والله أعلم.
وأول ما لفت نظرى - فى هذه الفصول الرائعة - أنها كُتبت بمحبة عارمة وصادقة للشيخ رفاعة وتقدير مخلص وعميق لإنجازه العظيم وريادته الفذة، كما تميزت بمعاصرة المؤلف لأبناء الشيخ رفاعة وتلاميذه، ولا ننسى أن أحمد أمين قد ولد بعد وفاة رفاعة بثلاث عشرة سنة فقط.
هذا القرب من دوائر معارف الشيخ، والمتصلين به اتصالًا قريبًا ومباشرًا، ربما لم يتوفر لكثيرين ممن كتبوا عن رفاعة الطهطاوى بعد وفاته بعقود، فضلًا عن انفراد أحمد أمين برواية تفاصيل دقيقة فى سيرة رفاعة وحياته الشخصية والعملية على السواء أظن أنها لم تتوافر فى سيرة أو ترجمة أخرى للشيخ رفاعة على كثرة ما كتب عنه خلال المائتى سنة الماضية..
(وللحديث بقية)