مَن يحتاج إلى الماضي؟ - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 4:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مَن يحتاج إلى الماضي؟

نشر فى : الخميس 27 أبريل 2023 - 7:25 م | آخر تحديث : الخميس 27 أبريل 2023 - 7:25 م

تحت عنوان "النوستالچيا في الأدب.. مَن يحتاج إلى الماضي؟" كتَبَت الشاعرة والإعلامية اللبنانية ندى حطيط مقالًا دسمًا قبل أيام في جريدة الشرق الأوسط. يناقش المقال أسباب نزوع الأعمال الأدبية لاستدعاء الماضي ويبالغ المقال في تصوير هذا النزوع إلى حد القول "يكاد الفعل الأدبي بمجمله يكون حنينًا إلى ماضٍ انقضى، أو أماكن ارتدناها، أو إلى أشخاص مروا بنا"، أقول يبالغ المقال في تأكيد محورية الماضي في الأعمال الأدبية، فمع أن حكاياتنا الشعبية بالفعل تبدأ بالجملة الشهيرة "كان ياما كان"، إلا أن تتمة هذه الجملة تتسّع لأمدية زمنية متفاوتة لأنها حين تُستَخدَم كمفتتح للحكي والسرد تكون بصيغ مختلفة وعلى أشكال كثيرة. تارةً يأتي الفعل الماضي (كان) مرتبطًا بزمن سحيق "كان ياما كان في سالف العصر والأوان"، وتارةً يأتي هذا الفعل غير معلوم التاريخ "كان ياما كان يا سعد يا إكرام ولا يحلّو الكلام إلا بذكر النبي عليه أفضل الصلاة والسلام"، وبالتالي قد يكون (ما كان) هذا حدث الأسبوع الماضي أو أول أمس أو حتى أمس وهذا ليس بتاريخ. ثم ماذا نفعل بأعمال أدبية عظيمة تمرّدت وسخطَت على الماضي ومثّلت نقاط تحوّل في تاريخ الأدب العالمي كمسرحية الكاتب البريطاني چون أوزبورن "أُنظُر وراءك في غضب"؟ في هذه المسرحية الشهيرة يرفض البطل تاريخ الحروب الذي لم يشارك في صنعه، ومع ذلك فإنه يعاني من آثار التاريخ الدامي سواء على مستوى تغّير العلاقات الطبقية داخل المجتمع الإنجليزي أو على مستوى تراجع المكانة الدولية للإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس. هذا الغضب على الماضي الذي اعتمل داخل نفس چيمي بورتر بطل المسرحية يتعارض تمامًا مع افتراض أن الرجوع إلى الماضي يكون بسبب الحنين إليه. وعندما نتقدّم أكثر وأكثر في قراءة مقال ندى حطيط سنجدها توسّع دائرة الميكروسكوب لترى من خلالها أبعادًا أخرى لعلاقة الأديب مع الماضي بما يتجاوز الحنين إليه، وأحد أهم تلك الأبعاد ما أنتجته الأعمال الحداثية من تفكيك الظواهر وتشكيك في المسلّمات وإثارة الأسئلة والهواجس وهو أمر انعكس على النظر إلى الماضي. كذلك قد يقال إنه كما أن الحنين إلى الماضي يجذب فإن كشف غموض المستقبل أيضًا يجذب، وهناك العديد من الأعمال الأدبية التي انجذبَت للمستقبل وحلّقت مع الخيال العلمي، وعلى المستوى الشخصي أعتبر نفسي واحدة من الأمهات اللائي عايشن انبهار أولادهن في مرحلة المراهقة بسلسلة الخيال العلمي "ملّف المستقبل" للمؤلف نبيل فاروق والتي كانت تدور أحداثها في الفضاء. وعلى مستوى أقل تواضعا من ذلك اهتمّت الدراما المصرية بالمستقبل، بل إنني فوجئت مثلًا بوجود فيلم بعنوان "رجل المستقبل" عُرِض في عام ١٩٤٦ وقام ببطولته أحمد سالم ومديحة يسري عن قصة للسيد بدير وكان حديث المستقبل في هذا الوقت يدور في أضيق نطاق وتكتنفه الخزعبلات والأساطير، أما الأغاني التي تستعجّل الساعات والأيام ترقبّا للحبيب ولهفةً عليه فحدّث عنها ولا حرج. في قصيدته البديعة "أغدًا ألقاك؟" يطوي الشاعر السوداني الهادي آدم- الغد شوقًا للحبيب ويتعامل معه كأنه اليوم إذ يقول "قد يكون الغيب حلوًا.. إنما الحاضر أحلى".

ولا ننسى انبهار المجال البحثي بالمستقبلات البديلة وبناء السيناريوهات المستقبلية اعتبارًا من فترة التسعينيات. وفي موضع آخر من مقالها الشيّق ستقيم ندى حطيط علاقة بين الماضي والمستقبل ولا تضع أحدهما في مواجهة الآخر عندما تقول إن حنين الشعوب المُستعمَرة مثلًا لعصر ما قبل الاستعمار إنما يرسم خطة العمل المستقبلي لحركات التحرر الوطني. والخلاصة إذن هي أن الحنين إلى الماضي له مكانه المعتبَر في الأدب، هذا صحيح، لكن الأدب كله لا يحّن إلى الماضي.

• • •

وبعد هذا التوضيح لموضع الحنين للماضي من الأعمال الأدبية أعود لأسأل السؤال: لماذا يحّن الأديب وبالذات الأديب العربي إلى الماضي؟ يحّن الأديب إلى الماضي لأنه مخزن تجاربه وذكرياته ومنه يستخرج أشخاص رواياته ويصنع بهم عالمه الروائي. من الصعب جدًا تصوّر إفلات كاتب كبير مثل فتحي غانم من تأثير صاحبة الجلالة عليه بعدما قضى في بلاطها ما يزيد على نصف قرن، ولذلك فحين أبدَع روايتيه "الرجل الذي فَقَدَ ظله" و"زينب والعرش" كتَب عن شخصيات حقيقية من لحم ودم، وهي شخصيات فيها الانتهازي وفيها أيضًا الثوري. كما يحّن الأديب إلى الماضي لأن الأديب أكثر ارتباطًا بالأشياء والأماكن من كثيرين، فعندما أراد شاعر فلسطين محمود درويش التعبير من محبسه عن شدّة اشتياقه لأمه، حوّل شوقه إلى خبز وقهوة وحليب وقال "أحّن إلى خبز أمي وقهوة أمي"، فخلَط في أبياته روح الأم مع الدقيق ومذاق البن وربطهم جميعًا بماضيه قبل القبض عليه. أما شاعر سوريا نزار قبَاني فإنه الشاعر الأكثر ولعًا بالتفاصيل بل بتفاصيل التفاصيل: الجرائد والكتب والسجائر والفساتين وبقايا البقايا، فكان يصف تلك التفاصيل ويُضخمها ويُسكنها حنينَ النساء إلى أمس فات وأمسيات مضت وراح زمانها. يتساءل نزار في قصيدة "ألف أهواه" على لسان إحدى نسائه "ربّاه ربّاه، أشياؤه الصغرى تعذّبني.. فكيف أنجو من الأشياء ربّاه؟". ومضت أعوام طويلة قبل أن يفلت مصطفى صادق الرافعي من الحنين إلى محبوبته فكتب لها "أوراق الورد" و"حديث القمر" نثرًا في منتهى العذوبة هو للشعر أقرب، وباب الرسائل هو باب يندر أن نجد أديبًا لم يدخل منه اتصالًا بالماضي وحنينًا إليه. ولأن الحنين للوطن هو الوجه الآخر للحنين للحب في أي صورة يتجسّد هذا الحب، أهدانا شعراء المهجر جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي حنينًا مقطّرا على هيئة سطور وأبيات، يقول جبران "إن شوقي يكاد يذيبني ولولا هذا القفص الذي حبَكت قضبانه بيدي، لاعتليتُ متن أول سفينة سائرة شرقًا". ثم أن الأديب يحّن إلى الماضي لأنه مثله كمثل أي إنسان آخر يأتي عليه وقت يحتاج فيه للبوح والفضفضة والاعتراف وربما حتى جلد الذات باستعادته للمؤلم والمكروه، وما يميّز الأديب عن الآخرين هو أن بحوزته قلم يكتب به سيرته الذاتية، وباب السيرة الذاتية هو باب آخر يطرقه الأدباء ويدخلون منه، بل إن منهم مَن يكاد ألا يطرق بابًا سواه ومن هؤلاء إدوار الخرَاط الذي تدور معظم أعماله في محيطه الأُسَري، وفي ذلك فإن درّة حكيه هي عَبر ثلاثيته الشهيرة "رامة والتنين" و"الزمن الآخر" و"يقين العطش".

• • •

قبل سنين طويلة دعت الكاتبة ميّ عزام في أحد مقالاتها إلى امتلاك القدرة على غلق أبواب الوعي ونوافذه من آن لآخر للحيلولة دون تدفق الماضي وسعيه لأن يحضر ويحيا ويسيطر على الحاضر. ومنطقها في ذلك أن العرب -أدباء وغير أدباء- من فرط ما يعيشون في الماضي تحوّلوا إلى "جثث تحمل رائحة الموت وشواهد القبور". وهذه مبالغة بلاغية لا تقّل عن تلك المبالغة التي أتت بها ندى حطيط حين قالت إن الفعل الأدبي يكاد أن يكون محض حنين للماضي، ومع ذلك فإن الدعوة لتفعيل الوعي بالواقع ووقف الانجرار للماضي أمر مطلوب وحريُ بالاهتمام، لأن للماضي كما رأينا أدوارًا يؤديها، لكن هذه الأدوار إن هي تضخّمت أكثر مما يجب انقطعت صلة الإنسان مع الحاضر وضاع إحساسه بالزمن. فقط سيظل التعامل مع اللاوعي هو المعضلة الحقيقية الباقية لأنه لا أحد يمكنه أبدًا أن يضمن ألا يتسرَب عبر طبقات اللاوعي ودون أي ضوابط الكثيرُ من أمثال: كان وكانوا وكنّا.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات