الثورة المصرية.. واستعادة فلسطين - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 10:02 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الثورة المصرية.. واستعادة فلسطين

نشر فى : الجمعة 27 مايو 2011 - 11:40 ص | آخر تحديث : الجمعة 27 مايو 2011 - 11:41 ص

 شهدت ذكرى النكبة هذا العام تغيرا ملحوظا وغير مسبوق فى طريقة تعامل الفلسطينيين معها.

تغيرا ابتعد بها عن الاحتفالات التى تندب الخسارة، أو تستدعى أوجاع ضياع فلسطين وتتباكى عليها. تغيرا استلهم ثورات الربيع العربى ومنهجها فى طرح الموقف الأخلاقى الأعلى سلميا فى مواجهة القوة الغاشمة العارية من أى شرعية أو أخلاق. وخرجت جموع الفلسطينيين إلى الحدود، تدق عليها وتتطلع إلى أرضها، وتعلن للعالم أجمع أن هذه الأرض المغتصبة هى أرضها، وأنها تتمسك بحقها فيها؛ وأنه مهما طال الاستيطان الصهيونى فيها، فإنه ليس إلا استيطانا استعماريا بغيضا، فى أرض لا يزال أصحابها يطالبون بها، ولايعترفون للمستوطنين بأى حق فيها.

فما برح الفلسطينيون يذكرون العالم كل يوم، وبصيغ مختلفة، ربما كانت السياسية منها هى أكثرها تخاذلا وترديا، بأنهم أصحاب أرض وأصحاب حق، وبأنهم لن يتنازلوا عن أرضهم وعن حقهم مهما طال الزمن.

وربما لهذا السبب نفسه يلجأ العدو الصهيونى باستمرار، لا إلى العدوان المستمر فحسب، وإنما إلى رفع سقف مطالباته التى كان آخرها المطالبة العنصرية الكريهة بالاعتراف بيهودية دولة الاستيطان.

فالعدو الصهيونى يعرف أكثر من غيره، أنه اغتصب أرض الغير، وأن استمرار استعماره الاستيطانى لها مرهون بضعف العرب وتخاذلهم.

لذلك كان انزعاج هذا العدو من فقدانه لذخره الاستراتيجى، المتمثل فى نظام مبارك المخلوع، الذى حمى مشروعه الاستيطانى البغيض لثلاثين سنة، كبيرا، وهلعه على سقوطه ملحوظا للعيان.

والواقع أن الربط بين المتغيرات الوليدة التى أخذت فى التبرعم مع الربيع العربى، وبين تغير طبيعة تعامل الفلسطينيين هذا العام مع ذكرى النكبة ليس مجرد مصادفة، ولكنه نتيجه حتمية لوعى جماهيرى حدسى مضمر بأن كثيرا من الشروط التى حمت مشروع الاستيطان الصهيونى وكرسته، قد بدأت فى التزعزع مع بداية اليقظة العربية والوعى الجديد، الذى يتبرعم عبر ذلك الربيع العربى؛ وتحتاج براعمه الغضة إلى الكثير من الرعاية والحرص عليها من أعداء الداخل والخارج على السواء.

فمع تلك اليقظة الجديدة التى نادت بإسقاط النظم التى كان من سقط منها، ولا تزال النظم القائمة منها، «ذحرا استراتيجيا» للعدو ومشروعه الاستيطانى البغيض فى فلسطين، تتآكل بالتدريج الشروط التى تدعم استمرار هذا المشروع الاستعمارى: آخر المشاريع الاستعمارية الباقية، وأطول احتلال لأرض الغير فى عالمنا المعاصر.

كما أن تحقق شعار الثورة الثلاثى المهم: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية، سيخلق حالة جديدة من الوجود الحضارى للأمة العربية، باعتبارها أمة من شعوب حرة تتمتع بكرامتها ووعيها العقلى القادر على تمحيص الأمور وتحديد أجنداتها، وبالتالى قدرتها على فرض أولوياتها، ويوفر لها قدرا معقولا من الحياة الكريمة التى تحققها العدالة الاجتماعية المبتغاة. وهو أمر يشكل مجرد احتمال تحققه فى المستقبل أحد أهم هواجس أعداء الثورة.

لأنهم يدركون أنه لا حياة فى هذه المنطقة لمشروع نهضوى عربى حر، ومشروع أمريكى يستنزف ثروات المنطقة، ويرعى دولة الاستيطان الصهيونى فيها.

وهذا التناقض بين المشروعين: مشروع النهضة/ الثورة فى المنطقة العربية من ناحية، والمشروع الأمريكى الصهيونى فيها من ناحية أخرى، يعيه أعداؤنا باستمرار، ويرسمون سياساتهم وفقا له على مد تاريخنا الممتد من الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. ولا بد أن تعيه الثورة المصرية والثورة العربية من ورائها، وأن ترسم استراتيجياتها وفقا له أيضا. وكما أن هذا الوعى الشديد بالتناقض، بل التعارض الجذرى بين المشروعين، من مضمرات الخطاب السياسى الصهيوأمريكى، الذى يتذرع على السطح الآن بدعم الثورة، ودعم السلام بين الجلاد والضحية.

فلا بد أيضا أن يكون من مضمرات خطاب الثورة السياسى، ولا يطفو قبل الأوان على السطح، حتى لا يسهّل لأعدائها الهجوم عليها، دون أن تكون مستعدة لأى مواجهة مع أعدائها. فكم عانينا من العنتريات التى لا تنهض على أسس من التفكير العقلى والاستعداد السليم، والتى تصب فى نهاية الأمر فى صالح العدو، بينما يبدو أنها فى الظاهر تعمل ضده.

وأدرج ضمن تلك العنتريات كل حديث الآن (وقبل أن تكمل الثورة مشروعها، وترسخ بنيتها التحتية الشاملة التى تضمن تحقيق شعاريها: إسقاط النظام القديم، وتأسيس نظام جديد يحقق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية) عن إلغاء كامب دايفيد، أو طرد السفير الصهيونى، أو الصلاة فى المسجد الأقصى. فلابد أن نتذكر درس إغلاق مضايق تيران، دون أن تكون لنا القدرة على رد الفعل بالقوة العسكرية القادرة على حمايته، وما جره علينا من هزيمة بشعة عام 1967 ما زلنا نعانى من ويلاتها حتى اليوم، فكامب ديفيد، وهى ثمرة انتصار تلك الهزيمة، من أبشع مخلفاتها.

والواقع أن قيام الثورة المصرية فى حد ذاته وجه ضربة قاصمة لأعدائها فى الخارج والداخل على السواء. وهو أمر لا تعيه دولة الاستيطان الصهيونى فى فلسطين فحسب، وإنما يعيه كل رعاتها الغربيين، وفى مقدمتهم راعيتها الأولى (وحاضرتها الأم بمعنى المتروبوليتان الاستعمارى لها) الولايات المتحدة الأمريكية. فلا يوجد محلل أمريكى أو غربى جاد لا يدرك، أو بالأحرى لم يكتب بصور تتفاوت بين التعليق الصحفى والدراسة الجادة، أن ثورة مصر كانت أكبر لطمة على وجه المشروع الأمريكى وسياساته فى المنطقة، بل وفى العالم من ورائها. ولا يوجد فى الوقت نفسه أى استراتيجى أمريكى جاد لا يبذل قصارى جهده الآن، تفكيرا ودراسة وتحليلا، لتطويق هذه اللطمة واستيعاب أثرها التدميرى على سياسات الولايات المتحدة فى المنطقة، فى نوع من الممارسات المعروفة باسم الحد من الخسائر Damage Limitation. فسياسات الولايات المتحدة فى المنطقة تتمحور حول أمرين أساسيين: تأمين السيطرة على النفط، وضمان استمرار المشروع الصهيونى فى المنطقة، وهما أمران مترابطان ومتكاملان فى مخطط السياسة الأمريكية.

والواقع أن محاولات تقليل الخسائر الجارية الآن على قدم وساق، ليست إلا التمهيد الضرورى للانقضاض على الثورة واستئناسها. وما خطابات أوباما الأخيرة إلا الخطوة الأولى على طريق طويل ومحفوف بالمؤامرات لا بالنسبة للثورة المصرية وحدها، وإنما بالنسبة لربيع الثورات العربية كله.

لذلك فإن المهمة الأساسية الآن لكل مصرى حريص على ثورته، هى الوعى بالأخطار المحدقة بالثورة وكشفها ودعم مسيرتها كى تحقق أهدافها، فى استكمال اسقاط النظام وكل رموزه من ناحية، وفى تأسيس بنية كفيلة بتحقيق شعارها الثلاثى: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية من ناحية أخرى. ولا بد أن يضع هذا الوعى نصب عينيه ما يسعى إليه أعداء الثورة فى الخارج، وهم يعملون بدأب على استيعاب الصدمة، ثم استدراج مصر للوقوع فى فخاخهم التى لم يتوقفوا يوما عن نصبها لها.

وما كل ما يدور الآن من تخبط فى الساحة المصرية، واندلاع لأحداث الفتنة الطائفية إلا بعض أهون تلك الفخاخ التى ينصبونها لها. فثمة حرص شديد فى كل دوائر التخطيط الاستراتيجى الصهيوأمريكية على التسلل إلى الثورة كى يفرغوها من محتواها، أو يحاصروا تأثيراتها على مشروعهم فى المنطقة. وبالإضافة إلى اليقظة لما يقومون به، لابد أيضا من يقظة مماثلة إزاء ما يفعله أعداء الداخل أيضا.

لأن تلك العنتريات التى يطلقها السلفيون حول الصلاة فى المسجد الأقصى، لا تقل خطرا عليها من ردود أفعال أعدائها، فغايتها استدراجنا للوقوع فى شباك أعداء الثورة فى الخارج، وتوفير الذرائع لهم كى يجهزوا عليها بسهولة، والزج بالثورة الوليدة فى معارك لم تستعد لها، تقدمها فريسة سهلة لأعدائها.

فما قدمته الثورة لفلسطين بالفعل كثير وجديد، ولا أعنى بذلك اتفاق المصالحة، أو فتح المعابر مع قطاع غزة، ولكنى أعنى قبل أى شىء هذا النموذج المتحضر فى طرح الموقف الأخلاقى الأعلى فى مواجهة العسف وغطرسة القوة. لأن هذا النموذج أهم كثيرا من تلك العنتريات الفارغة بل المسمومة. كما أنه يؤكد من خلال ممارسته العقلية أن الطريق لفلسطين قد تغير، ولابد أن يتغير.

وأنه يعتمد على العقل والحق والموقف الأخلاقى الأعلى. ويعتمد أكثر ما يعتمد على ضرورة معرفة الجمهور المصرى العريض، وخاصة أجيال الشباب منه بقصة فلسطين كى تتجذر فى وعيه، وكى تتكون من جديد ذاكرته التاريخية القادرة على التصدى بعقلانية ومعرفة وحكمة للمشروع الصهيونى البغيض الذى يستهدف مصر قدر استهدافه لفلسطين. وأجدى من كل تلك الدعوات المشبوهة أن نقرر على طلاب المدارس الثانوية، بدءا من العام الدراسى القادم، رواية رضوى عاشور الجديدة (الطنطورية).

لأن هذه الرواية الملحمية الجميلة تعيد بناء الذاكرة الفلسطينية التاريخية، وتفتح طريقها الجديد لاستعادة فلسطين، فماذا تقدم لنا هذه الرواية؟ هذا ما سأكتب عنه الأسبوع المقبل.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات