الأمراض السلوكية للعلماء - محمد زهران - بوابة الشروق
الإثنين 2 ديسمبر 2024 4:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأمراض السلوكية للعلماء

نشر فى : السبت 27 مايو 2017 - 9:20 م | آخر تحديث : الأحد 28 مايو 2017 - 12:42 م
يوجد كتاب صغير ولكنه جميل جداً ومفيد بعنوان "Advice for a Young Investigator" أو "نصيحة للباحث الصغير" من تأليف سانتياجو رامون كاجال (Santiago Ramon Cajal) أبو علم الأعصاب (Neuroscience) والمتوفي سنة 1934 (ولكن الكتاب طبع العديد من الطبعات بعد ذلك)، في هذا الكتاب يعطي كاجال عصارة خبرته للباحثين الذين يبدأون حياته العلمية ولكني أعتقد أنه مفيد لأي باحث في أية مرحلة فقد تعرفت على هذا الكتاب أثناء دراستي للدكتوراه ومازلت أعود إليه من آن لآخر حتى الآن بعد مرور أكثر من أربعة عشر سنة على مناقشتي للدكتوراه!

في مقالنا اليوم سنستعرض جزء صغير من هذا الكتاب وهو عن الأمراض السلوكية التي إذا أصابت الباحث أخرجته من زمرة الباحثين والعلماء وجعلته بدون أي تأثير في هذه الدنيا.
قبل أن نستعرض هذه الأمراض أحب أن أنوه إلي مقال يلخص بعضها في موقع brain pickings أو "إختيارات للعقول" وهو موقع جميل جداً يحتوي على مقالات عن موضوعات علمية وفنية وفلسفية وأدبية والمثير للإعجاب أن هذا الموقع تديره سيدة واحدة فقط وهي التي تكتب كل هذه المقالات (عدة مقالات في الأسبوع)!! ... سنستعرض الآن هذه الأمراض السلوكية للباحثين بعد إدماج بعضها والإسهاب في شرح بعضها لتتناسب مع وقتنا الحالي.

النوع الأول هو الشخص "المتأمل" وهو من ينظر في العلوم لجمالها، لا ننكر أن لكل فرع من فروع العلوم جماله الخاص فمثلاً علماء الرياضيات يرون بعض المعدلات الرياضية أو بعض الإثباتات الرياضية في منتهى الجمال حتى أن هناك عدة كتب تتكلم عن جمال المعادلات الرياضية والتي هي البنية التحتية لكل العلوم، مثلاً كتاب "It Must Be Beautiful: Great Equations of Modern Science" أو "لابد أنها جميلة: المعادلات العظيمة في العلوم الحديثة" حيث إجتمع عدد من العلماء وصحافيو العلوم لشرح المعادلات المعقدة بالنسبة للشخص العادي وبيان مافيها من إبداع وهناك كتاب آخر شبيه إسمه
""The Great Equations: Breakthroughs in Science from Pythagoras to Heisenberg" أو "معادلات عظيمة: إكتشافات خارقة من فيثاغورث حتى هايزنبرج" لفيلسوف ومؤرخ العلوم والأستاذ الجامعي روبرت كريس (Robert P. Crease) وهو كتاب صغير ممتع يحكي قصة إكتشاف عشرة معادلات وكيف أثرت بشكل كبير في العلوم، وسنجد كتب كثيرة مشابهة في مختلف فروع المعرفة.
الشخص المتأمل يدرس علم من العلوم فقط ليستمتع بجمال هذا العلم ولكن لا يستخدم معرفته العميقة هذه في أية إكتشافات علمية ولا يدفع عجلة العلم للأمام، كأن تشاهد مباراة كرة قدم مثلاً وتستمتع بها ولكنك لا تساهم بأي شئ في هذه الرياضة، ستجد هذا النوع من الناس متحمس جداً وهو يتكلم عن العلوم التي يعشقها ولكن لا يوجد أى إنتاج علمي لهم.

النوع الثاني هم أشباه العلماء ولا أقصد هنا من ينشرون علماً خاطئاً أو مسروقاً (كما تكلمنا من قبل) لأن هؤلاء ليسوا أشباه علماء حتى ولكنهم لصوص، ما نقصده هنا هو نوع من الناس لديه بالفعل علماً كثيراً ومعرفة موسوعية وإلي هنا ينتهي الشبه مع العلماء، هذا النوع يجمع المعارف من أجل أن يتفاخر بها أمام الناس ويضفي على نفسه مسحة من الوقار والهيبة، من علامات هؤلاء الأشخاص: معرفة موسوعية ومعرفة بعدة لغات والإشتراك في العديد من المجلات العلمية المتخصصة ونهم شديد للقراءة... وفقط!! لا يوجد أي إنتاج علمي لهم ولم يساهموا في العلم بأى شئ لأن ذلك يحتاج مجهود أكبر بكثير من مجرد القراءة! هذا النوع إجتمع فيه التفاخر وضعف الإرادة ولكنك عندما تتكلم معه تجده حلو المعشر ويحكي معلومات مسلية وموسوعية ولكنه لا يكتب أو يقوم بأبحاث.

النوع الثالث هو من يعلم الكثير وموهوب وذو إرادة ... ولكن ثقته في نفسه شديدة للغاية حتى أثرت على دقته في عمله وأصبح غير مبالي بالقواعد العلمية الصارمة مما يؤثر على أبحاثه وهذا الإعتداد الشديد بالنفس يجعله لا يقبل النقد أيضاً وفي المجتمع العلمي هذه الصفات تعني نهاية حياتك العلمية.

النوع الرابع يعلم الكثير ويعمل بجد ولكن أحلامه الكبيرة جداً والإعتداد بالنفس الشديد (يشبه هنا النوع الثالث) تجعله يعف عن العمل في أبحاث علمية صغيرة ولا يعلم أن هذه الخطوات الصغيرة هى الطريق المؤدي إلى الإكتشافات الكبري، إذا تتبعت قصص الإكتشافات الكبري ستجد أن الباحث لم يبدأ بقوله "سأعمل في بحث يجعلني أحصل على نوبل" مثلاً! بل يبدأ في بحث صغير ولكنه مفيد هذا البحث يقوده إلى أسئلة علمية أخرى كل سؤال منها هو بحث آخر صغير ... وهكذا حتى يصل إلى الخطوة الأخيرة وهو الإكتشاف الكبير ... وقد لا يصل ولكنه يكون قد أعد الطريق لمن يكمل على عمله ويصل إلى الإكتشاف الكبير ... هذا يختلف عن الطموح، الباحث الطموح يريد أن ينتج علماً ينفع الناس فالفوز بجائزة ليس طموحاً ولكنه تفاخر وهذا لا يعني أن ترفض جائزة تأتي إليك عن عملك ولكن لا تجعل هدفك (إذا كنت باحثاً حقاً) شيئاً غير العلم... هذا ليس سهلاً وكثيراً ما نقع في هذا المطب ولكن فلنحاول.

معرفة هذه الأنواع من الأمراض مهمة كي نراقب أنفسنا لأنه كما ترى لن تقدم أى شئ للمجتمع العلمي وبالتالي للعالم إذا وقعت في أيهم...

يجب أن نعترف أن من يعلم و يعمل بتركيز على أبحاث صغيرة في طريق بحثي كبير هو فقط الذي يؤثر في هذه الدنيا وليس من يعلم وينام!

 

محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات