«بريد الليل».. رسائل لن تصل أبدًا! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«بريد الليل».. رسائل لن تصل أبدًا!

نشر فى : الخميس 27 يونيو 2019 - 9:45 م | آخر تحديث : الخميس 27 يونيو 2019 - 9:45 م

فى هذه الرواية براعةُ السرد، ولعبةُ الحكى، مثلما فيها من عمق المأساة، وسحر المعنى، صفحاتٌ قليلة، ولكنها تختزل التراجيديا الإنسانية، ليس فيها إجابات من أى نوع، وإنما هى علامة استفهام ضخمة معلّقة، تثير الذهولَ والتأمل.

أتحدث عن رواية «بريد الليل» الفائزة بجائزة البوكر العربية 2019، لمؤلفتها اللبنانية هدى بركات، والصادرة فى طبعتها المصرية عن دار الآداب، ومكتبة تنمية. أبطالها منفيون ومهاجرون من العرب، يعترفون بكتابة رسائل لا تصل أبدًا، يتألمون بالكتابة، مثقلون بالماضى، وبالعائلة، وبالعواطف، ومثقلون أيضًا بالجرائم والذنوب، وبينما تنتقل رسالة السارد الأول بالصدفة العبثية إلى السارد الذى يليه، فتحرِّض، من جديد، على السرد، فإن اللعبة كلها تبدو عبثية: عبثًا فى المنفى، وعبثًا فيما حدث فى أوطانهم المنكوبة بالحروب والقهر، وعبثًا فى الإقامة والترحال، وكأنهم ينتقلون من ليلٍ إلى ليل، ومن ورطةٍ إلى مأزق إلى مأساة.

ذكاء الفكرة متعدد الأوجه: مأساة أوطان من خلال مآسٍ فردية، والعكس صحيح، اعتراف وتواصل بالكتابة، ولكنه لن يصل أبدًا لمن يعنيه الأمر، ابتعاد عن العائلة مع العودة إليها، حيث توجه الرسائل إلى الأب أو الأم أو الأخ.. إلخ، بداية افتراضية مفتوحة، فالسرد يبدأ بمن كتب رسالة وتركها، فحرَّض من وجدها على أن يقلِّده، ليكتبَ بدوره رسالةً تخص حياته، ولكن هناك بالتأكيد من كتب رسالة قبل السارد الأول، وهناك بالتأكيد رسائل كثيرة لم يجدها أحد، النهاية أيضًا مفتوحة، فالبوسطجى نفسه مات، تاركًا فهرست رسائل لم تقرأ بعد، بسبب الحروب التى تشهدها منطقتنا العربية المنكوبة.

تنفتح الفكرة واللعبة على معان شديدة الثراء، تنطلق من أفراد مأزومين، إلى أوطان منكوبة، يتم تجهيل أسمائها عمدًا، وكأن الكارثة أهم من الاسم، بل ويحتمل المعنى أيضًا مأزقًا وجوديًا إنسانيًا عامًا، فالشخصيات فى وحدة موحشة، وفكرة التخلّى والنبذ حاضرة وبقوة فى تفاصيل حياتها، وهم جميعًا فى حالة انتظار معجزة أبدًا لا تجىء، ومعنى «الرسائل» يأخذ كل تنويعاته: من الرسائل المكتوبة التقليدية، إلى صرخات الاستغاثة، والأحلام المجهضة، والرموز التى لا تجد تفسيرًا.

هناك بين سطور هؤلاء المنبوذين والمنفيين صراع مستتر بين رومانسية غابرة، وواقع قاسٍ، الرسائل المكتوبة على الورق جزء من هذه الرومانسية، ولذلك تتمزق أو توضع فى صفيحة القمامة، وهى لا تصل فى كل الأحوال.

لا تستطيع أيضًا أن تتجاهل أسئلة بعض الشخصيات عن رسائل السماء، التى تبدو غامضة بالنسبة إليهم، هناك أسئلة حول حكمة أن تعذِّب من تحب، والشخصيات دائمًا تلقى بأمر مأساتها على ظرفها وقدرها، وهى أصلًا لا تفهم فكرةَ أن تكون فى تجربةٍ قاسية، وفى إحدى الرسائل نقرأ حوارًا مدهشًا بين المهاجرين المشردين، ومبشرًا إنجيليًا، الرجل يؤمن بالرموز، بينما لا يرى المنفيون إلا شراسة الواقع.

هذا الليل الذى ترسمه هدى بركات له ملامح وجودية عامة: معاناة، فانتظار، فدوائر من عبث، وشكاوى لا تجد ردًا، أما حامل الرسائل (البوسطجى)، الذى كان يوصلها بكل أمانة، فقد صار هو نفسه لا يفهم ما يحدث، بعد أن ضاعت العناوين، ومُحيت الأماكن، لم تترك الحربُ شيئًا فى مكانه، هو نفسه تحول إلى كاتب للرسائل، يترك كلماته مكتوبة قبل أن يموت، ويترك كل الرسائل التى لم تقرأ، بعد التصنيف والفهرسة.

تحتمل الحكاية كلَّ هذه «الرسائل» الضمنية، وتحتمل أيضًا هذه المستويات فى القراءة، وبينما يتحول البريد من وسيلة تواصل إلى تعبيرٍ عن انقطاع وبتر، فإن بناء الرواية الذى يبدأ فى قسم «خلف النافذة» بالرسائل، يؤكد فكرة انقطاع التواصل فى قسم «فى المطار»، ثم يصل إلى استحالة التواصل، وتسليم الرسائل فى القسم الأخير، الذى يحمل عنوانًا مؤلمًا هو «موت البوسطجى».

«بريد الليل»، إذن، رحلة مدهشة من الفرد إلى الوطن إلى مأزق إنسانى بلا بداية ولا نهاية: وحدة ووحشة وليل، وغرقى الأوطان يغرقون فى البحار، أو فى المدن الغريبة، لدينا فقط نافذة انتظار، ومطار لا لقاء فيه، وبريد يصل إلى حيث لا أحد، وبوسطجى فقد دوره فى التوصيل، والقراءة.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات