الخروج من الصندوق - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 6:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخروج من الصندوق

نشر فى : الخميس 27 سبتمبر 2012 - 8:20 ص | آخر تحديث : الخميس 27 سبتمبر 2012 - 8:20 ص

لا أدرى لماذا ينتابنى الشعور كثيرا بأننا لا نعيش ثورة حقيقية، وأن ما حدث فى يناير 2011 حلم جميل أفقنا منه على واقعنا المألوف الكئيب. كان تفسيرى الأول لهذا الشعور أن من يمسك بزمام الأمور فى مصر الآن هم «الإخوان المسلمون». صحيح أنهم فصيل من الفصائل الأساسية للثورة حتى وإن انضموا إليها لاحقا بعد التأكد من شعبيتها وقدرتها على النجاح، وحتى إن كانوا فى أدق أيامها ممن أصابهم وهم الإصلاح، وكانوا من ثم على استعداد للاتفاق مع النظام السابق على تسوية ما، لكنهم تنظيم ظل يكافح طيلة ما يزيد على ثمانين عاما من أجل تحقيق الرؤية التى بشر بها الشهيد حسن البنا مؤسس التنظيم وتحملوا من أجل ذلك ضربات النظم القائمة التى رأت فى نهجهم خطرا عليها، ومن ناحيته دخل التنظيم أحيانا فى «تفاهمات» مع هذه النظم لاختراقها، ولم يجد غضاضة فى استخدام العنف والاغتيال السياسى كأداة من أدواته إلى أن وصل الأمر إلى الصدام الصريح فى عهدى عبدالناصر ومبارك، وكان الأول على استعداد «لإشراكهم» فى الحكم، لكنهم لم يرضوا بغير «المغالبة» بديلا، بينما ورث الثانى درس اغتيال السادات على أيدى جماعات متشددة لا تنتمى لجماعة «الإخوان المسلمين»، وإن كان البعض قد نظر إليها باعتبارها فروعا من أصل يعود إلى «الجماعة»، أو على الأقل باعتبارها نتاجا أو انعكاسا لعنف النظم السابقة معها، أو انعكاس لنقد هذه الجماعات المتشددة نهج الإخوان الذى رأت أنه آخذ فى الاعتدال والمواءمة مع الظروف. والخلاصة أن الحكم فى النهاية قد آل إلى «الإخوان المسلمين» وبالتالى فإن ما يتصدر المشهد السياسى الآن هو «برنامج الإخوان» وليس «برنامج الثورة» حتى وإن حدثت تقاطعات بينهما.

 

●●●

 

ثم أخذ ذلك الشعور يقوى وبالذات بعد فوزهم بمنصب الرئاسة، فرئيس الجمهورية يدين بالفضل فى الفوز لقدرتهم التنظيمية ودعمهم له، حتى وإن كانت بينه وبينهم خلافات ما زالت ثانوية حتى الآن، وهو ـ أى الرئيس ـ يجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، والحكومة حكومتهم رغم أن الحساب العددى يشير إلى أنهم أقلية داخلها، لكن الحساب السياسى يشير إلى وجود «أنصار»، وهى لعبة سياسية معروفة، وكذلك إلى وجود تكنوقراط ـ بعضهم ينتمى للنظام السابق ـ لا يمانعون فى العمل تحت مظلة الإخوان. أما السلطة القضائية فقد عهد بمهمة الصلة بينها وبين السلطتين التنفيذية والتشريعية إلى وزير للعدل كان قد فاجأ الجميع عند صدور حكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب بنقد للحكم والمحكمة التى أصدرته مع أنه كقاضٍ ذى خبرة طويلة وعميقة يعلم أن هذا النقد غير جائز من قاضٍ يعرف «تراتبية» درجات المحاكم، وأن المحكمة الدستورية تتربع وحدها على قمة الهرم القضائى، ولا يجوز عرض أحكامها على محاكم أدنى درجة.

 

المهم أن سلطة الحكم قد دانت للإخوان فماذا فعلوا بها؟ لم يخرج الإخوان من عباءة تركيز السلطة فى يد واحدة، كما كان الحال فى عهد مبارك، ولم يخرجوا أيضا من عباءة تجنيد حشد من المستشارين لا عمل واضحا لهم حتى الآن، وأتمنى ألا يؤول مصير التجربة إلى ما آلت إليه فى عهد مبارك خاصة أن المستشارين الحاليين يضمون مجموعة من خيرة أبناء الوطن، وكرر رئيس الجمهورية تقليد مفاجأة الرأى العام بشخص رئيس مجلس الوزراء، وأعادنا سويا إلى مشهد قمة الارتباك فى مشاورات التشكيل الوزارى، واختيار شخصيات بعضها غير مؤهل للمنصب الذى يشغله، والأهم من ذلك أن كثيرا من الوزراء ينتمون بشكل أو بآخر للنظام القديم، وحرصت «السلطة الإخوانية» ممثلة فى مجلس الشورى على الاقتداء بالنظام القديم فى اختيار شخصيات موالية لمناصب رؤساء تحرير الإصدارات الصحفية القومية، وكذلك فعل مجلس الشورى مع رؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحفية، ثم فى إعادة تشكيل المجلس القومى لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للصحافة (قليل من الليبراليين واليساريين يضيف لمسات جمالية للتشكيل)، وأفلت المجلس القومى للمرأة من المصير نفسه إلى حين. وهذا كله إن تغاضينا عن الجمعية التأسيسية للدستور وتشكيلها المعيب.

 

●●●

 

أما فى الأمور التى تتعلق بالثورة واستراتيجيتها فهى مربط الفرس، فإجراءات العدالة الاجتماعية التى جاءت ضمن الأهداف الأساسية لثورة يناير متباطئة، وقد تُسَرع بعضها على نحو جزئى مظاهرات «لى الذراع»، والرؤية الخاصة لقضية العدالة الاجتماعية غائبة، وقد تنطلق لاحقا من مفهوم «الأعمال الخيرية» وليس من البنية الاقتصادية للمجتمع ورؤية صحيحة للقضية، ودفع التنمية الاقتصادية يتم بالطرق نفسها التى سادت عهد مبارك: زيادة الاستثمار الأجنبى والاعتماد على قروض ومساعدات خارجية من مصادر تبدأ بقطر وتنتهى بالبنك الدولى. فى ثورة يوليو كان تأميم شركة قناة السويس من أجل بناء السد العالى، وكان الحديث عن حشد المدخرات المحلية لتمويل التنمية، وعن إحلال الواردات بإنتاج وطنى ما أحوجنا إليه اليوم وقد استنزفت مواردنا فى استيراد أتفه السلع التى نستطيع بسهولة أن ننتج أفضل منها، وعن صناعة ثقيلة أنجز العديد من مشروعاتها بالفعل، وعن برنامج صواريخ حرية ظلم كثيرا دون معرفة تفاصيل الجهد الخارق الذى بذلته مجموعة من خيرة المهندسين المدنيين والعسكريين بالمعايير العالمية. ومن الأمانة أن نشير إلى ما ورد فى الحديث التليفزيونى لرئيس الجمهورية الذى أدلى به مؤخرا لقناة «النيل» الإخبارية عن حلمه بأن تدخل مصر مجال صناعة الطائرات والسفن والصناعة الثقيلة، لكن المفارقة أنه اختار وزيرا للصناعة تتركز خبرته العملية فى صناعة الألبان.

 

حدثت الممارسات نفسها فيما يتعلق بالدور الخارجى لمصر الذى وصل إلى الحضيض فى عهد مبارك لأسباب سياسية (التبعية للسياستين الأمريكية والصهيونية على الأقل) واقتصادية (تحطيم الاقتصاد المصرى بالممارسات التى ما زالت تجرى أمام أعيننا الآن). هذا الدور ما زالت تتبع بشأنه الأساليب نفسها وإن استبدل بالقول بأن الدور القيادى لمصر من المسلمات بغض النظر عما يستجد من متغيرات قول آخر بأن مصر استعادت دورها، وثمة فارق كبير بين حضور المؤتمرات الإقليمية والدولية والقيام بالزيارات الخارجية وبين أن يكون لك دور فاعل. ومن الحقيقى أن حضور رئيس الجمهورية القمة الأفريقية كان رسالة مهمة لقيت قبولا حسنا من القادة الأفارقة، فحواها أن مصر قد أنهت عزلتها الطويلة عن أفريقيا التى ترتبت على مجرد وقوع محاولة لاغتيال الرئيس السابق فى أديس أبابا، لكن هذه الرسالة لم تتبعها طفرة فى جهود تقديم المنح الدراسية للطلاب الأفارقة، أو زيادة ملموسة فى ميزانية الصندوق الفنى لتقديم المعونة الأفريقية تتيح للدبلوماسية المصرية حضورا أكبر فى أفريقيا، أو المبادرة بمشروعات جديدة للاستثمار المشترك، وصحيح أن حضور رئيس الجمهورية قمة عدم الانحياز فى طهران أثبت أن السياسة المصرية قادرة على حرية الحركة، لكن الديباجة غير المسبوقة لخطاب رئيس الجمهورية فى القمة أفسدت إمكانية تطبيع العلاقات مع إيران، وفيما عدا هذا ظل التوجه إلى «الخليج» دائرة ذات أولوية فى التحرك المصرى تماما كما كانت فى عهد مبارك وبقيت السياسة المصرية وَجِلة من مجرد التفكير فى المطالبة بتعديل معاهدة السلام مع إسرائيل مع أن الظروف فى سيناء قد تغيرت جذريا، وباتت مواجهة الإرهاب بحاجة إلى إعادة النظر فى توزيع القوات الذى يفرضه الملحق العسكرى للمعاهدة، وتعددت الزيارات الخارجية دون هدف واضح على نحو يذكر بممارسات مبارك التى وصل الأمر بها إلى أن لجأ المسئولون فى إحدى الدول الأوروبية الكبرى إلى السفير المصرى كى يسألوه عن أسباب الزيارة. وبعد هذا كله وقبله تبقى الحقيقة القاطعة بأنه لا دور فعالا خارجيا بغير قاعدة قوة اقتصادية قادرة على توفير حرية الحركة التى تمثل حجر الأساس فى أى دور خارجى.

 

●●●

 

تساءلت بينى وبين نفسى عن السبب فى هذا كله، وقلت إن الممارسات السابقة التى دامت أكثر من أربعين عاما ربما حشرتنا جميعا فى صندوق ضيق تعودنا عليه وعلى أساليب التفاعلات فيه بحيث يكون الخلاص منها عسيرا الآن، وخطر لى أيضا أن «الإخوان المسلمين» قد بذلوا جل جهدهم فى بناء التنظيم وانتشاره وحمايته ضد الضربات الأمنية المتلاحقة فى العهد السابق، وأن هذا ربما جاء على حساب معايشتهم الواقع المصرى مما جعلهم يقدمون على قرارات أو ممارسات تكشف أحيانا عن عدم المعرفة الوثيقة بالواقع، ولعل المثال الأبرز هو قرار رئيس الجمهورية بإعادة مجلس الشعب المنحل بحكم المحكمة الدستورية، وهو قرار أُجهض قضائيا بمجرد ولادته، ثم إصرار «الإخوان المسلمين» على الطعن فى الحكم لدى محاكم أقل درجة، بل واستمرار هذا الإصرار رغم الحكم الأخير الذى أصدرته المحكمة الإدارية العليا.

 

نحتاج جميعا إلى «الخروج من الصندوق» إلى الآفاق الرحبة للثورة، وليس هذا بالعمل السهل لأن برنامج النخبة الحاكمة ليس برنامج الثورة حتى وإن تقاطع معه، وأن هذه النخبة مشغولة الآن بترسيخ أقدامها فى بنية السلطة أكثر من أى شىء آخر، وأن النظام السابق قد حفر بصماته الثقيلة على جسد الوطن ومستقبله، فمتى يجىء المخرج وكيف يكون؟

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية