مرة واحد سورى خرج من بيته - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 6:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مرة واحد سورى خرج من بيته

نشر فى : الأربعاء 28 يونيو 2017 - 8:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 28 يونيو 2017 - 8:25 م
كنت فى صغرى كثيرا ما أنشغل فى لعبة تركيب صورة متكاملة من القطع الصغيرة، فتظهر لى لوحة لفنان عالمى أو منظر طبيعى كبحرهادئ فى يوم صيفى بامتياز، أو حتى صورة مدينة بتفاصيلها التى تحكى قصص الناس وبائع الورد وإشارات المرور. كان التركيب يأخذ منى ساعات أو أيام، حسب حجم الصورة وعدد القطع، فكلما كثرت القطع وصغرت، كلما أصبحت مهمة التركيب أصعب.
أشعر اليوم ـ وبسبب هول التغريبة السورية وانتشار السوريين الذين خرجوا من بيوتهم فى السنوات الأخيرة ـ أننى كلما التقيت بأحدهم وكأننى عثرت على قطعة من اللعبة. تبعثرنا فى بلاد الله الواسعة، رمانا الموج هنا وهناك فبتنا نردد جملا لا أعرف إن كانت تستدعى ابتسامة أو دموعا، مثل «مرة واحد سورى ب أيسلاندا»...
***
صادف هذا الأسبوع اليوم العالمى للاجئين، وهرعت المنظمات العاملة فى المجال الإنسانى بتذكير المهتمين أن العالم يشهد أكبر موجة نزوح وهجرة منذ الحرب العالمية الثانية. نحن - السوريين - خصوصا من هم من جيلى، كنا قد عاصرنا قصة للأطفال كانت تبثها قناة التلفزيون الرسمية، كانت قصة ولد اسمه ريمى يجوب الأرض بحثا عن أمه. تذكرت ريمى وقصته، والأهم من ذلك تذكرت أغنية المسلسل فقد كانت كلماتها تقول «نقطع الدروب، نفرح القلوب، ولنا فى كل شارع صديق» وأنا أستوعب أننى، وفى كل مرة أسافر فيها لأى سبب، أتواصل سلفا مع أصدقاء سوريين أصبحوا يقيمون فى البلد التى سأزورها. أصبحت أتحمس لرحلة أكثر حين أحدد مواعيد لقائى بأصدقاء من سوريا هناك، حيث تأخذ الرحلة معنى خاص حين أرتب كل شىء حول قهوة مع صديقة المدرسة، عشاء مع جيران الطفولة، أو جلسة سمر ما بعد العمل مع رسام عرفته فى دمشق طالبا فى كلية الفنون وأصبح اليوم معروفا بمعارضه فى باريس أو برلين.
لقد خرج نصف السوريين من بيوتهم فى السنوات الأخيرة، وبتنا نحكى عن سوريى المهجر، الدياسبورا كما تسمى هذه الفئة فى اللغات الأجنبية. نقرأ هنا وهناك قصص نجاح تلميذ فى مادة العلوم، أو مخترع لآلة جديدة، نفتخر بإنتاج الفنانين والموسيقيين، وننشر صور شباب وشابات أعادوا لنا بعض الشعور بأن الحرب التى طحنت البيوت وحصدت الأرواح لم تطفئ كل الأنوار. طبعا هناك، مع الشعور بالفخر، شعور آخر وبنفس الأهمية، وهو الشعور أن السورى أصبح كفأر التجارب. يا سلام، لقد نجح، الله أكبر، لقد أعاد محفظة إلى صاحبها. وكأن السوريين مادة كيماوية نراقب تغيرها فى مختبر مع تغير الظروف المحيطة بهم. مع درجة الحرارة المرتفعة، يتمددون فيظهر فيهم النابغة والذكى. نقلل من الإضاءة فينكمشون ويظهر منهم الخسيس أو العنيف. هكذا أصبحنا محط الأنظار. «مرة واحد سورى»... املأ الفراغ.
***
مرة واحدة سورية خرجت من بيتها للدراسة ثم للعمل ثم لبناء أسرة. عاشت فى بلاد عديدة لكنها داخل كل منزل أقامت به حملت معها قطعة من دمشق فبنت حولها محرابا. هذه السورية تمسكت بلهجتها حتى أن أصدقاءها السوريين والآخرين يضحكون لبعض المصطلحات التى ترميها أثناء الحديث. «لسه فى ناس بتقول هيك؟» يسألونها حين تعيد تدوير عبارات جدتها. هذه السورية لم تعد تعرف كيف تطبخ أى نوع من الطعام عدا الطعام السورى، أو المشرقى عموما. تتودد إلى زوجها فتناديه «ابن عمى»، وتتوعد من يزعجها بأن «أحسب الله ما خلقك».
مرة واحدة سورية خرجت من بيتها فأعادت بناءه فى خيالها كل يوم. هنا غرفتى، على الرفوف ألبومات الصور لكننى لم أرتب آخر ألبوم فى زيارتى الأخيرة. هنا فى المطبخ علب الحلوى مرصوصة وها هو ابنى يجر كرسيا ويقف عليه ليصل إلى الحلوى، كما فعلت وفعل أخى من قبله فى طفولتنا. هنا فى الشمس، مدت أمى قطع المشمش المعقود بالسكر حتى تلدعه أشعة الصيف ويصبح مربى نفرده على الخبز المحمص طوال العام. هنا غرفة أبى الجانبية حيث يسمح التدخين، فالسجائر ممنوعة فى باقى البيت حتى اتخذ مكتبه الصغير طابعا سريا يخفى فيه دخان السجائر أرفف الكتب فيشعر من بداخله وكأنه فى فيلم يحكى من ممر سحرى نسلكه لنصل إلى شخص يستطيع أن يقرأ أفكارنا. أما هنا فغرفة الجلوس التى تهرب منها كلمات بعضها مهموس وبعضها مصحوب بضحكات رنانة. «وين القهوة؟» أهرع إلى المطبخ فقد تأخرت لأننى أسندت رأسى إلى طرف الباب أسمع من صديقات والدتى عن آخر أخبار المدينة.
***
مرة واحدة سورية خرجت من بيتها وبدأت تختلط عليها التفاصيل بسبب البعد فخافت ألا تتمكن من غرس دمشق فى أولادها رغم اللهجة ورغم الطبخ، خافت أن تكون صارت أشبه بفلسطينيى الشتات الذين كانوا يحكون عن الأرض والزيتون ومدن مترامية بغنج على شاطئ المتوسط، فنقلوا رائحة هواء البحر إلى من تلاهم من أجيال دون أن يعطوهم المدينة ذات نفسها.
تلك السورية التى خرجت من بيتها كثيرا ما تتخيل نفسها أمام الباب الخشبى الكبير وقد عادت من الرحلة الطويلة وأدخلت مفتاحها فى الباب لتجد والدها بانتظارها ورائحة الكبة تطير إليها من المطبخ. «ليش هيك تأخرتى؟» تقول والدتها من بعيد. «كنت أزور الأصدقاء، بتعرفوا أنه مرة واحد سورى طلع من بيته، لقى أنه نص السوريين صاروا برا؟».

 

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات