تنعاد عليكم بالخير - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تنعاد عليكم بالخير

نشر فى : الأربعاء 28 ديسمبر 2016 - 9:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 28 ديسمبر 2016 - 9:50 م

درج أن ترتبط فترة نهاية السنة الميلادية بشعور ببرد الشتاء ودفء القلوب، خصوصا مع ظهور اللونين الأحمر والذهبى وهما يزينان المدينة، أى مدينة يحتفل بعض سكانها على الأقل بعيد ميلاد السيد المسيح ومن ثم برأس السنة الجديدة. ورغم أن بعضا من مظاهر الاحتفال أخذت فى السنوات الأخيرة طابعا يرى الكثيرون أنه تجارى بشكل قد يكون مبالغا فيه، من عروض فى الأسواق وأسعار سلع يزعم أنها مخفضة وحفلات خاصة بالعيد، إلا أن لفترة نهاية السنة حالة شديدة الخصوصية، إذ أشعر أحيانا أن أحدهم قد رش حولى نجوما صغيرة التصقت بكل ما لمسته، فأضفت عليه نقطا لماعة ورائحة شوكولاته، وأن كلمات المعايدة الخارجة فعلا من القلوب ترقص حولى حتى فى عدم وجود من يقولها، فكثير منها فى عقلى أردده لنفسى فى الأسبوع الأخير من السنة. فى شتاء دمشق، أشم رائحة قشر البرتقال وهو يحترق فوق المدفأة فى بيت جدتى، وأسمع صوت بائع المازوت وهو يمر فى شوارعها لملء خزانات البيوت بالمازوت لتدفئتها.

ثمة سحر يغلف المدن التى يحتفل بعض سكانها بأعياد نهاية السنة الميلادية، هناك شجن وحنين لزمن ربما كنا قد عشناه أو سمعنا عنه، أو حتى تخيلناه من كثرة ما قرأنا عنه من حكايات. من أصوات الأجراس فى كنائس القدس، إلى قداس كنيسة المهد فى بيت لحم، إلى ترانيم جوقات الكورال فى أديرة حلب ودمشق. لم أعد أعرف اليوم ما إذا كنت قد شاهدت القداس من بيت لحم كاملا يوما ما حين بثته التلفزيونات بثا حيا، كما لم أعد أعرف إن كنت قد سمعت عددا من الراهبات فى حارة قديمة فى دمشق، تتناقشن حول تحضيرات الهدايا لأطفال أقل حظا من غيرهم. لا أعرف إن كنت قد رأيت شباب الجالية اليونانية أو الإيطالية فى الإسكندرية، وهم يخرجون من الكنيسة ويوجهون أبصارهم إلى باب خروج السيدات علهم يلتقون بزوجات المستقبل.
درج أن يحتفل الكثيرون بنهاية السنة الميلادية، سواء بلقاء الأصدقاء أو التجمع فى بيت العائلة، كرمز لطى صفحة، انتهت كتابتها، فى صحبة من نحب، واستقبال فصل جديد فى الحياة نأمل أن يضم هؤلاء الأشخاص. بالنسبة لى، تصطحب نهاية السنة دوما مخزونا هائلا من الحزن برغم الأحمر والذهبى وصوت الأجراس. ثمة حنين جميل ومستكين فى كل هدية يفتحها أحدهم أمامى: من هنا يطل وجه صديقة فرقتنى عنها الأيام، من هنا أسمع صوت صديق لوالدى يبدو أننى لن أراه قريبا، من هناك يأتينى صوت طفل لم أعد أذكر إن كان أخى أم ابن قريبى. ترتبط صور الهدايا وورقها الملون بذهنى بفرح الأطفال وفخر الكبار، وأيام ربما عشناها وبتنا اليوم نتحسر على ذهابها. أفهم أخيرا معنى أن تريد أن تفرح ولدا بهدية عبر لك مرارا عن أنه يشتهيها، وأفهم حزن من لا يستطيع أن يلبى طلبا لشخص يحبه.

 

•••

فى الشتاء أشم رائحة شوربة العدس، وأتذكر والدة صديقتى وهى تغلى القرفة والقرنفل فى الشاى، ثم تزيده سكرا وتبرر ذلك بأن الشاى فى الشتاء بحاجة إلى مقوٍ. أتذكرها وهى تحوم حولنا أيام الدراسة، وتأتينا بصحن فيه كعك العيد ثم بصينية عليها القهوة، وتعود فتسأل إن كنا نريد بعضا من الشوربة. أضحك اليوم وأنا أتذكر أن جل ما كان يشغلنى فى المساءات تلك كان كيف سأواجه برد الشارع حين أخرج من بيتهم لأعود إلى منزلى، ثم أنسى البرد تماما حين أخرج إلى الشارع فى حيهم وقد تلألأت الزينة فوق رأسى فى خيوط تضم أنوارا صغيرة ملونة تتدلى من شرفات العمارات.
أتساءل متى بدأت ترتبط فترة نهاية العام الميلادى فى ذهنى بشعور حزين بدلا من شعور البهجة والفرح، متى بدأت أنظر إلى الفصل الذى ينطوى فى حياتى على أنه انتهى ولن يعود، بدل أن أتطلع إلى ما هو مقبل. ربما فى الوداع والاستقبال شىء من الموت والولادة، خليط عجيب من الليل وأول خيوط الإشراقة، ربما فى الشتاء أصلا رمزية الموت، كما عبر عنها الكثير من الكتاب، ربما رغبتى فى الاختفاء تحت الغطاء فيها شىء من رغبتى فى أن ينسانى من حولى حتى أتصالح مع السنة المنصرمة، أتعلم منها، أودعها كما تستحق، فأجلس وحدى معها وأعاتبها على ما فعلت أو أثنى عليها أحيانا. الوداع أصلا لا يمكن أن يكون حدثا سعيدا، لا سيما إن كان وداعا يذكرنا بعبثية عدم التكرار، عبثية أن عقارب الساعة لا تتوقف، وأن الأيام ماضية حتى لو فردنا أيدينا أمامها علنا نوقفها أو نبطئ من سرعتها. هنا شعرة شائبة اخترقت السواد، هنا خط رفيع يرتسم عند العين وقت الابتسام، هنا طبقة صوت باتت أقل موسيقية وأكثر رتابة، وهنا قصص ربما صرت أكررها، إذ قد لا ينتبه من يقص أنه قد رواها ولنفس المستمعين من قبل.

•••

 

الشتاء والبرد والسنة المنتهية وصورة المدفأة وصوت احتراق الحطب أو رائحة احتراق المازوت، ومعها جميعها أزيز إبريق الشاى الذى تغلى المياه فيه فيمتلئ المكان بالبخار، ترنيمة تأتينا من بعيد، أو قد تكون الجارة الأرمينية من تغنيها فنسمعها من شباك المطبخ، ورق الهدايا المزين وشرائط ذهبية تلف البضاعة فى واجهات المحال التجارية، إجازة من المدرسة ومن العمل، وعبارات نكررها فى كل محادثة: تنعاد عليكم السنة الجديدة بالخير.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات