لماذا مدائن العقاد؟! (10) - رجائي عطية - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لماذا مدائن العقاد؟! (10)

نشر فى : الأربعاء 29 يناير 2020 - 10:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 29 يناير 2020 - 10:25 م

عَنَّ للأستاذ العقاد، أن يدير حوارا تخيليّا ــ افتراضيّا ــ مع أبى العلاء المعرى عن الاستشراق والمستشرقين، وعن الشيوعية والشيوعيين.
ومن المعروف أنه قد تعددت وتنوعت وتباينت الكتابات والآراء حول المستشرقين، 
ولم تكن هذه القضية قائمة ولا موجودة حين ودع المعرى دنيا الناس فى سنة 1057 م (449 هـ).. بيد أن العقاد سعى فى الحوار الخيالى الافتراضى الذى ابتدعه للإطلال على حكيم المعرة إلى استطلاع رأيه فى هذه القضية التى لم يواجهها فى زمانه.
طفق رسول المحتفلين بألفية المعرى، يبسط له أمر المستشرقين الذين لم يسمع بهم فى عصره.
أنصت المعرى لما يبسطه رسول المحتفلين من أمر هؤلاء المستشرقين، أنهم كانوا من القسيسين والرهبان الذين اتجهوا لدراسة علوم العرب ليفقهوا أسرار القرآن، ويدلوا بدلوهم بالحجة والبرهان، وكيف كثرت طوائفهم فى بلاد الجرمان، لا سيّما وهم قوم مشغوفون باللغات والبحث فى الأصول واللهجات.. وهنا بدأ شيخ المعرة يستغرب من شيوع «الاستعراب» 
بينما الرسول يبسط له أن فئات منهم سمعت برهين المحبسين فزاروا ضريحه وسألوا عنه، فزاد عجب المعرى من كثرة ما تحدث به محاوره عنهم والتمس رأيه فيهم.
وقال حكيم المعرة:
«هذه فئة عهدنا لها أشباها بين رهبان زماننا، يدرسون العلم دراسة رهبان ولا يزالون رهبانا فى كل ما يدرسون، فهم يحجون إلى العلم من طريق الدين، وقلما يعرفون العربية إلاّ بلسان أعجم ونفوس أشد عجمة، وهم جامعون ومحيطون، دأبهم كدأب كل محيط يقف عند الأطراف ولا ينفذ منها إلى القلب، ولهم على ذلك ما استحقوا من جزاء وثناء».
ثم أذن المعرى لمحاوره أن يأتيه بمن يريدون من الصحفيين سؤاله عنهم مجتمعين. فما هى إلاّ أن تقدم واحدٌ منهم يتلو خطابا قد استظهره، تلا منه بعد كلام طويل:
«إننا نستقبل منك ــ يقصد المعرى ــ فى بلاد الجرمان رجلا من أهل الشمال وإن كان مولده فى الجنوب، وعقلا من عقول الآريين وإن كان منسوبا إلى الساميين، وشاهدا جديدا على صدق علم الأجناس الذى كشف لنا حقيقة النبوغ ودخيلة المزايا والأخلاق بين الشعوب. فلا فضل ولا عبقرية ولا ارتقاء فى الآداب والفنون، ولا فى العقائد والأخلاق إلاّ أن يكون مردها جميعا إلى أبناء الشمال، وإن خفيت مصادر النسب واختلفت مواقع الميلاد.. ولو لم تكن أيها الرجل العظيم من سلالة الآريين لما اتصل الروح بينك وبين الهند فرأيت ما رآه البوذيون وحرمت ما يحرمون، وأبحت ما يبيحون، فأنت الناهى عن أكل الحيوان وجناه الناصح بإحراق الموتى وإن عجبت منه».
عاجل الصحفى يقرأ للمعرى بعض أشعاره حول هذه المعانى، ويضيف إليها أنه المنكر كل ما ذهب إليه البشر إلاّ مذهب الهند..
فسارع التلميذ رسول القوم يجيب قبل الصحفى، بأنهم يعتقدون فى بلاد الجرمان أن البشر جنسان: جنس مخلوق للسيادة والحكم، وجنس مخلوق للطاعة والتسخير.. وأن أهل السيادة منبتهم فى الشمال ثم انحدروا إلى الهند فعرفوا بالهنود الآريين، وأن أهل الطاعة والتسخير منبتهم فى الجنوب، فهم الساميّون أبناء سام بن نوح أو الحاميّون أبناء حام، ومن شاكلهم فى السحنة والسواد.. وأنه ما من نابغ عظيم إلاّ وهو مردود إلى الشمال، وإن ظهر بين أبناء الجنوب.. ثم أضاف أن ذكرهم أن انتماءه مردود إلى الشماليين، لعله من اشتباههم فى أنه مولود على مدرجة الصقالبة والروم.
هنالك انتفض المعرى غاضبا، انتفاضة العربى المسبوب فى نسبه، وصاح بالتلميذ رسول القوم: ويح الرجل! ماذا عساه يريد منى بعد هذا التخليط؟! قل له إن كان لا يسمع منى إنى القائل:
لا يفخرن الهاشــمى: على امرئ من آل بربر
فالحق يحلف ما علـى: عنــده إلاَّ كـقنـبر
وذلك حسبه من جواب..
***
أما الشيوعية، فنحن نعرف ما للأستاذ العقاد من موقف مناهض لليسار بعامة، وللشيوعية بخاصة، وأنه أدرج الشيوعية ضمن المذاهب الهدامة فى كتابه «أفيون الشعوب ــ المذاهب الهدامة»، ونشرت له دار الهلال «الشيوعية والإنسانية ــ فى شريعة الإسلام»، ووضع الناقد الكبير رجاء النقاش كتابا عن «عباس العقاد بين اليمين واليسار»، استقصى فيه ضمن ما استقصاه، موقف العقاد من اليسار، وموقفه من الماركسية.
ويبدو أن العقاد لم يشأ أن يفوت فرصة إعادة بعث الموتى ــ الافتراضية ــ إلى الحياة، دون أن يستطلع ماذا يمكن أن يكون عليه رأى المعرى فى هذه المسألة، فيفترض فى طوافه مع صاحبه ببساط الريح، أنه لاقى جماعة من المشيعين أو الشيوعيين حين نزل بأرضهم، فسلك معهم غير مسلكه المعهود من التقية والمواراة، فألقى إليهم بما يريد غير عابئ بزمجرة ولا صخب ولا وعيد، وقد بدأ الحوار بكلمة من أحد الرفاق الشيوعيين، اعتبر فيها أن المعرى يدين بمذاهبهم، فقال بعد إسهاب:
«هذا أيها الرفاق رجل منا قد سبقنا بكل رأىٍ من آرائنا وكل دعوة من دعواتنا: فنحن ننكر التفاوت فى قسمة الأرزاق وهو ينكره فى كل صورة من صوره، فيقول عن التفاوت بين العاملين وأصحاب الأموال:
لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته: فقيـر معـرى أو أمير مدوج
وقد يرزق المجدود أقوات أمة: ويحرم قوتا واحدٌ وهو أحوج
وأضاف أنه قال فى التفاوت بين الشاب الفقير وهو أَوْلَى بالمال، وبين الشيخ الموسر وهو مُدْبر عن الحياة:
يعيش الفتى فى عدمه عيش راغب: ويثرى مسن للمعيشة سائم
ونحن ندعو إلى التآزر الاجتماعى والتكافل بين العاملين فى الأمة، وهو قد نادى بذلك من قبل فقال:
الناس للناس من بدوٍ وحاضرة: بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
وهو قد نادى بخدمة الحاكمين للرعية فقال:
ظلموا الرعية واستباحوا كيدها: وعدوا مصالحها، وهم أجراؤها
واستطرد الرفيق يشيد بأنه ذهب إلى أبعد من ذلك، فدعا إلى التكافل بين أعضاء المجتمع الإنسانى فقال:
وكل عضو لأمر يمارسه: لا مشى للكف، بل تمشى بك القدم
بل استطرد إلى أبعد من هذا فى المساواة، وقد بين هذا الحكيم العربى للناس ــ حق البيان ــ ما يسعون هم لبيانه من أن الآداب والعقائد ما هى إلاَّ مصالح الطبقة الحاكمة، تصوغها على هواها لتدعم سلطانها، ولتحقق الغلبة لنفسها على ما عداها.
وطفق الرفيق يتلو مستشهدا قول المعرى:
إنما هذه المذاهب أسبا ب لجلب الدنيا إلى الرؤساء
وقوله فى إظهار سطوة المال وقدرته على تحويل الآداب وتخويل الحقوق:
المال يسكت عن حق وينطق فى: باطل، وتجمع إكراما له الشيع
ونحن بشرنا بدين العقل، وهو قد بشر به فى قوله:
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدا: وأخرج منها ما أمامى سوى عقلى
بل نحن قد قررنا تفسير التاريخ «تفسيرا ماديا»، وهو قد أشار إلى ذلك فقال:
الناس للأرض أتباع إذا بخلت: ضنّوا وإن هى جادت مرة جادوا
وظل الرفيق يستشهد بأبيات للمعرى، إلى أن أضاف أنه لا يبالغ إذا قال إنه ذكر الاشتراكية بلفظها:
لو كان لى أو لغيرى قدر أنملة: من البسيطة خلت الأمر مشتركا
وأردف يقول إنه يأنف من التطفل الاجتماعى، ولا يبيح القوت إلاَّ لمن يكسبونه ويستحقونه، وهو قد فرق فى قصائده ما اجتمع من مبادئ المذهب الاشتراكى فى كنف الأساطين، وأن هذه مرتبة ترفعه على أبناء عصره درجات، وتجعله من أئمة الفكر فى تاريخ الاصلاح بين الأقدمين والمحدثين.
مضى الرفيق الخطيب فى إطرائه للمعرى حتى اقترح أن يقفوا جميعا ليشربوا نخب هذا الشاعر الحكيم الذى جمع فى منظوماته ومنثوراته ما لم يجتمع قط فى كلام أحدٍ من الشعراء.. ولن يفوتك مرام العقاد من حشده هذا «الإطراء» على لسان الرفيق، ولا ما احتج به من استشهادات بأشعار أبى العلاء.. لن يخطئك أن العقاد يبسط كل ما يمكن للشيوعيين أن يركنوا إليه فى قراءة المعرى قراءة لصالحهم، كيما يأتى رد فيلسوف المعرة شاملا الرد على كل ما قد يقال!

‏Email:rattia2@hotmail.com
‏www.ragai2009.com

التعليقات