الانصياع ليس خياراً .. ومبادرات الدفء ومناورات الفتور فى أيام أوباما الأولى - ياسر علوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 مايو 2024 11:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الانصياع ليس خياراً .. ومبادرات الدفء ومناورات الفتور فى أيام أوباما الأولى

نشر فى : الأحد 29 مارس 2009 - 8:48 م | آخر تحديث : الأحد 29 مارس 2009 - 8:48 م

حفلت الأيام الأولى للرئيس الأمريكى باراك أوباما بــ«مبادرات الدفء» والمجاملات التى أطلقها فى كل اتجاه، لتشمل ليس فقط الخصوم وإنما أيضا بعض الحلفاء الذين فترت العلاقة معهم نتيجة لشعار جورج بوش «من ليس معنا، ضدنا». بالمقابل لم يزد رد الفعل «الفاتر» لهؤلاء الخصوم والحلفاء على التأكيد أنه لا أحد زاهد فى الحوار مع القطب الأعظم، ولكن لا أحد متعجل أيضا على هذا الحوار، أو راغب فى دفع ثمنه مقدما.

هكذا، تعلن إدارة أوباما نقل بؤرة نشاطها العسكرى لأفغانستان، وتطلق المجاملات باتجاه الدول المحيطة بها. فتحظى روسيا والصين مثلا بتأكيدات الشراكة والحوار بديلا عن أسلوب الضغط والتهديد الذى اتبعته الإدارة السابقة، وتحظى إيران بسلسلة إشارات إيجابية تتوج برسالة «عيد النيروز» الشهيرة.
ماذا يكون الرد؟ يعلن الجميع الترحيب بهذا التغير فى «سلوك الإدارة الأمريكية» ويتريثون لاستدراج المزيد من العروض التفصيلية، والحكم على «جدية» هذا التغيير!!

أكثر من ذلك، تضطر إدارة أوباما بعد أقل من شهر على توليها الحكم، للخروج من قاعدة «ماناس» فى قرغيزستان، أهم محطات إطلاق العمليات الجوية على أفغانستان، بذريعة «عقارية» مهينة تتمثل فى إعلان الحكومة القرغيزية أن الولايات المتحدة رفضت زيادة قيمة الإيجار المدفوعة للقاعدة، ومن ثم فإنها تمهل الإدارة الأمريكية 6 أشهر لإخلائها!! ويهمس المراقبون أن الأصابع الروسية وراء هذه «الأزمة العقارية»، كجزء من عمل دءوب لتنفيذ الهدف المعلن للسياسة الخارجية الروسية الوصول لعالم متعدد الأقطاب، وكسر الاحتكار الأمريكى للقوة فى النظام العالمى.

بالمثل، ترد إيران على «رسالة عيد النيروز» بإشارات ترحب من حيث المبدأ بالحوار مع إدارة أوباما، بشرط الاعتراف بأنه لا مجال لوقف «التقدم النووى الإيرانى» حسب التعبير الحرفى لمرشد الثورة على خامنئى، بل تضع شروطا للتعاون فى أفغانستان، أهمها التراجع الأمريكى عن الحوار مع بعض أجنحة حركة طالبان، العدو الألد لإيران.

حتى الحليفة تركيا، التى تحظى «بتكريم» القطب الأعظم باختيارها منبرا لمخاطبة العالم الإسلامى، تحتفظ بهامش مناورتها، وتعلن «بكبرياء جارح» على لسان رئيسها عبدالله جول خلال زيارته للعراق الأسبوع الماضى، أن قواعدها العسكرية مفتوحة أمام القوات الأمريكية «فى طريق خروجها» من العراق، نفس القواعد التى رفضت تركيا استخدامها فى «دخول» هذه القوات للعراق.

القاسم المشترك فى هذه التطورات هو الدرجة غير المسبوقة من «الجرأة» والابتعاد عن «الواقعية» فى التعامل مع القطب المسيطر على مقدرات النظام العالمى. بالمقابل يبدى «القطب الأوحد» أريحية وتسامحا استثنائيين مع هذه «التجاوزات»، بشكل لا يفوقه إثارة للدهشة سوى تشدده مع حلفائه الأكثر «إخلاصا وتهذيبا»، بدءا من إهدار سيادة باكستان وتحويل شمالها مسرحا لعمليات «مكافحة الإرهاب»، ووصولا للموقف من الرئيس حميد قرضاى الذى يوشك أن يكتشف عواقب «خدمة الغز» ــ حسب المثل الشائع ــ من خلال لائحة الاتهامات الأمريكية له بالمسئولية عن التدهور فى أفغانستان، والتهديد باستبداله بــ«الأجنحة المعتدلة» فى طالبان!ّ!

هل هى حماقة متبادلة، من القطب الأعظم الذى يتهاون مع «المتمردين» ويظلم «المخلصين»، ومن المتمردين المصريين على «إلقاء أنفسهم فى التهلكة»؟

فى السياسة، كما فى أى تحليل علمى، «الحماقة» ليست مقولة تحليلية، ناهيك عن أن تفسر تطورات بهذا الحجم. ولأن «الحماقة» لا تفسر، فقد اشتعل الجدال فى مراكز البحث والأوساط السياسية والصحفية داخل الولايات المتحدة وخارجها، حول هذه التطورات، والفرص التى تتيحها لكل لاعب دولى. عنوان النقاش هو «ماذا بعد انتهاء عصر القطب الأوحد؟»، وجوهره يتلخص فى أربعة أفكار أساسية:

أولا: أن لحظة «القطبية الأحادية» التى أعقبت نهاية الحرب الباردة أوشكت على الانتهاء، مثلها مثل جميع المراحل الشبيهة فى التاريخ، والتى كانت مجرد محطات انتقالية بين أشكال دولية أكثر استقرارا. هكذا، أدى تراجع الوزن الأمريكى فى الاقتصاد العالمى، وعجز الولايات المتحدة خلال الأزمة الاقتصادية الأخيرة عن مواجهة الركود العالمى بمفردها، لإشعال النقاش حول غياب الأساس الاقتصادى لاستمرار «الأحادية القطبية». ثم جاءت الورطات العسكرية فى أفغانستان والعراق لتعطى لحديث «نهاية القطب الأوحد» بعدا استراتيجيا لا يمكن القفز فوقه، وتفرض على الجميع التعامل معه بمنتهى الجدية.

ثانيا: رد أنصار وجهة النظر المحافظة بقوة على هذا الطرح، مشيرين إلى الفارق الشاسع بين القول بأن «القطب الأوحد» دخل فى مرحلة تراجع، وبين القول بأن عصره انتهى وحل محله نظام دولى متعدد الأقطاب، خاصة أن أيا من الأطراف «المتمردة» أو «المتذمرة» من «القطب الأعظم» لا يمكن مقارنتها بما لدى الولايات المتحدة من قدرات. بعبارة أخرى، إذا كنا نتحدث عن انتهاء الأحادية القطبية، فأين هو الطرف القادر على موازنة الولايات المتحدة؟ هو ببساطة غير موجود، ومن ثم تبقى الولايات المتحدة قطبا أوحد، ولو حتى إشعار آخر.

ثالثا: يأتى الرد على موقف «المحافظين» فى صورة إعادة تعريف كاملة لمعنى «تعدد الأقطاب» فى القرن الحادى والعشرين. فانتهاء القطبية الأحادية، لا يعنى بالضرورة عودة عالم القرن التاسع عشر (المقسم بين حفنة من الدول الأوروبية) أو عالم الحرب الباردة ثنائى الأقطاب. التاريخ لا يكرر نفسه، وما نشهده اليوم هو حالة جديدة، تتمثل فى تراجع القطب الأكبر وتراخى قبضته على مختلف مناطق العالم، بما يسمح لقوى كبيرة أو متوسطة الحجم أن «تنحت مناطق نفوذ إقليمية» تصبح فيها اللاعب الرئيسى، وتستطيع لأسباب استراتيجية وجغرافية أن تخلق بداخلها توازنا مع القطب الأكبر (كأن توازن الصين الولايات المتحدة فى منطقة بحر الصين، وأن توازن روسيا الدور الأمريكى فى آسيا الوسطى، وهكذا). ومجموع هذه القوى «جزئية النفوذ» هو ما يوازن القطب الأعظم على المستوى العالمى، ويحد من قدرته على الانفراد بالقرار، وهذا هو جوهر النظام العالمى البازغ، القائم على «تعدد أقطاب غير متكافئين فى القوة».

رابعا: يرتب ذلك نتيجة خطيرة للإدارة الأمريكية. ففى ظل هذا الوضع الجديد تصبح مهمة القطب الأعظم دفاعية، تستهدف منع اللاعبين الجدد من استقطاع مناطق النفوذ. وفى ضوء تعذر تحقيق ذلك عسكريا، ينفتح الباب أمام الصفقات، و«مبادرات الدفء» الرامية لاحتواء من تعذرت السيطرة عليه. أما المناطق المسيطر عليها بالكامل (باكستان أو أفغانستان قرضاى) فيجب إحكام السيطرة عليها بدون تضييع الوقت فى المجاملات «الشكلية» لسيادة أو أولويات حكامها «الحلفاء».

بالمقابل، فإن الخصوم المتمردين، أو الحلفاء الطامحين لدور أكبر، يدركون هذا التغير فى بنية النظام الدولى، ويعرفون نتيجته: «مبادرات الدفء» التى تطلقها إدارة أوباما تعبر عن حاجة حقيقية للصفقات وليست «عملا خيريا». المطلوب إذن هو تحسين شروط الصفقات، وإثبات الجدارة بها عبر قدر محسوب من «مناورات الفتور».

ربما كانت هذه الصورة الجديدة للنظام العالمى وراء اختيار السياسى المحافظ والمندوب الأمريكى السابق فى الأمم المتحدة جون بولتون، عنوانا غريبا لمذكراته المنشورة مؤخرا هو «الاستسلام ليس خيارا». لا يمكن فهم هذا الاختيار الغريب إلا بمعنى رفض «المحافظين» لأن «يستسلم» القطب الأعظم لفكرة النفوذ المتراجع و»الصفقات المفروضة» مع الحلفاء وبعض الخصوم. فى مقابل منطق بولتون، يتصرف هؤلاء «الحلفاء والخصوم» بمنطق أن «الانصياع ليس خيارا». هل يمكن لأحد أن يلومهم فى ضوء تجارب «الحلفاء المخلصين» وما آلت إليه؟ 
 

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات