إهانة القضاء هذه المرة ترقى إلى مستوى الصدمة. ذلك أنه فى الوقت الذى تنظر فيه عدة محاكم مصرية بعض القضايا التى اتهم فيها عدد من النشطاء المصريين بإهانة القضاء للتنكيل بهم، فإننا فوجئنا فى نهاية الأسبوع الماضى بأن السلطة ذاتها وجهت إهانة تاريخية للقضاء. وإذا كانت محاكمات النشطاء سياسية بالدرجة الأولى ويتعذر أخذها على محمل الجد، فإن الإهانة الأخيرة التى وجهتها السلطة إلى القضاء، وإن كانت سياسية بدورها، إلا أنها من الجسامة بحيث ينبغى أن تستقبل بأعلى درجات الجدية. فالأولى تستهدف أفرادا، أما الثانية فتهدر قيمة استقلال القضاء وتنال من هيبة القضاة واحترام القانون.
هى ليست صدمة واحدة فى حقيقة الأمر، وإنما عدة صدمات تتابعت خلال الأشهر الأخيرة. بدأت بمشروع مشكوك فى مصدره يخول لرئيس الجمهورية الذى هو رئيس السلطة التنفيذية سلطة تعيين رؤساء الهيئات القضائية، من بين ثلاثة مرشحين تعينهم الجمعيات العمومية، ورغم أن الهيئات القضائية عارضته بالاجماع، إلا أننا فوجئنا بأن مجلس النواب وافق على المشروع. وكان للموافقة دلالتها لأننا نعرف أن للسلطة دورها فى تشكيل أغلبية المجلس، وحين وافقت الأغلبية على المشروع فقد كان ذلك دالا على أن السلطة راضية عنه. فى الوقت ذاته فإنه سلط الضوء على الجهة التى كانت وراء تقديم التعديل، التى لم تعد مجهولة المصدر. وإذ أحدثت الموافقة صداها الغاضب فى أوساط القضاة فقد ظن كثيرون أن المشروع لن يتم التصديق عليه من جانب الرئاسة، وأنه سيرد إلى المجلس لإجراء التعديلات ــ أو بعضها على الأقل ــ التى جاءت فى اعتراض الهيئات القضائية عليه، غير أن ذلك لم يحدث، وكانت الصدمة الكبرى أنه تم التصديق على المشروع بعد ٢٤ ساعة من موافقة البرلمان، ونشر نصه فى الجريدة الرسمية على الفور (يوم الجمعة ٢٨/٤).
العملية بهذه الصورة لم تكن إهانة للقضاء فحسب، وهذا أمر لا يمكن التقليل من حجمه، وإنما شكلت خطواتها اعتداء على الدستور من زاويتين، الأولى فى الشكل والثانية فى المضمون. وتلك مسألة تحتاج إلى شرح أوجزه فيما يلى:
< طبقا لنص المادة ١٨٥ من الدستور التى نصت فى فقرتها الثانية على أن يؤخذ رأى كل جهة وهيئة قضائية فى مشروعات القوانين المنظمة لشئونها، وفى الحالة التى نحن بصددها رفضت الهيئات القضائية جميعها المشروع، ولكن رأيها جرى العصف به ولم يؤخذ فى الاعتبار.
< استقلال القضاء مبدأ مستقر فى الدستور منذ عام ١٩٢٣، ومنصوص عليه فى ثلاث مواد من الدستور الحالى (١٨٤ و١٨٥ و١٨٦). وتعيين رئيس الجمهورية لرؤساء الهيئات القضائية يشكل إخلالا بذلك الاستقلال وتغولا من جانب رئيس السلطة التنفيذية ينتهك ذلك المبدأ الأصيل، وفى انتقاد العملية ذكر أحد الباحثين أنه طبقا للدستور فإنه فى حالة محاكمة رئيس الجمهورية مثلا فإنها تتم أمام محكمة خاصة مشكلة من رؤساء الهيئات القضائية، وفى ظل الوضع الحالى يتعذر افتراض الحياد فى أن يقوم بمحاكمة الرئيس قضاة هو الذى اختارهم وعينهم فى مناصبهم.
رجال القانون الذين تحدثت إليهم لم يستغربوا إهدار السلطة التنفيذية لأحكام القضاء، وضربوا مثلا بحكم القضاء الإدارى بطلان اتفاقية الجزيرتين تيران وصنافير، ثم تجاهل الحكومة للحكم وإحالة الموضوع إلى البرلمان، فضلا عن إحالة الموضوع إلى قاضى الأمور المستعجلة لوقف أحكام القضاء الإدارى، وهو إجراء باطل يمثل عبثا بالقانون وليس احتكاما إليه، ومنهم من قال إن التصريح الأمريكى بأن الإفراج عن المصرية الأمريكية آية حجازى كان ثمرة اتصالات أمريكية مع السلطات المصرية، الأمر الذى اعتبر أن تبرئة السيدة وزملائها تم بفضل التدخل الدبلوماسى وليس بناء على حكم القاضى المصرى.
القانونيون الذين تواصلت معهم تحدثوا بمرارة عن إهدار أحكام القانون، لم يخطر على بالهم أن تذهب الأمور إلى أسوأ بحيث يطعن استقلال القضاء بالصورة التى جاءت فى القانون الأخير، وتساءل أحدهم منفعلا، هل يعقل أن تقوض بعض أهم أعمدة العدل فى مصر لمجرد أن السلطة تريد استبعاد أشخاص بذواتهم (قيل إن عددهم أربعة) من حظوظهم فى تولى رئاسة بعض الهيئات القضائية، لمجرد أن بعضهم غير مرضى عنه، أو أصدر أحكاما أغضبت الحكومة (حكم إلغاء اتفاقية الجزيرتين مثلا)؟