(1)
من يقرأ تاريخ الحربين العالميتين الأولى والثانية يدرك أن الشرارة الأولى لحروب بهذا الحجم غالبًا تبدأ بتدخلات دولية لمساندة أطراف نزاعٍ إقليمي. وما قاله الأمين العام لحلف شمال الأطلسى «الناتو» مارك روته، هذا الأسبوع فى بروكسل -عن تمركز وحدات عسكرية كورية شمالية فى منطقة كورسك الروسية قرب الحدود الأوكرانية- يُعتبر مؤشرًا مقلقًا يُنذر بتصعيد خطير. فدخول كوريا الشمالية على خط المواجهة دعمًا لروسيا فى حربها ضد أوكرانيا، حليفة الناتو، يضع الغرب فى موقف حرج. ورغم ذلك، يظهر الحلف مترددًا فى الاندفاع نحو مواجهة مباشرة، متمسكًا بتجنب سيناريو الحرب العالمية الثالثة منذ غزو روسيا لأوكرانيا فى فبراير 2022. هذا التردد يعكس نهجًا مغايرًا لما فعلته بريطانيا وفرنسا حين أعلنتا الحرب على ألمانيا فور غزوها لبولندا فى سبتمبر 1939.
بحسب الأمين العام للناتو، فإن وجود قوات كورية شمالية فى ساحة المعركة الأوكرانية يشكل تصعيدًا كبيرًا وتوسعًا خطيرًا فى الحرب الروسية، مؤكدًا أن التعاون العسكرى بين روسيا وكوريا الشمالية يشكل تهديدًا للأمن فى منطقتى المحيطين الهندى والهادئ، وأوروبا الأطلسية. وقد سبق أن دعمت كوريا الشمالية روسيا بإمدادات كبيرة من الذخيرة والصواريخ الباليستية، مما ساهم فى تأجيج هذا النزاع الذى بات يشغل قلب أوروبا.
من وجهة نظر الولايات المتحدة، هناك قلق متزايد من أن روسيا تستعد لاستخدام الجنود الكوريين الشماليين فى عمليات قتالية مباشرة. وصرحت المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية بأن عشرة آلاف جندى كورى شمالى قد تم نقلهم إلى شرق روسيا للتدريب، وأن بعضهم اقترب من الحدود الأوكرانية. ورغم أن الولايات المتحدة لم تؤكد بعد وصولهم إلى كورسك، فإن الحراك العسكرى شمالًا يمثل خطرًا متزايدًا، وهو ما قد يدفع الغرب لإعادة تقييم خياراته.
(2)
قال الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى، فى مؤتمر صحفى فى بروكسل، «هذه هى الخطوة الأولى نحو حرب عالمية»، معبرًا عن مخاوفه من انخراط قوى دولية جديدة فى الصراع. فهو يعلم أن أى رد عسكرى من الناتو على التدخل الكورى الشمالى قد يدفع الصراع بسرعة نحو حرب عالمية ثالثة. ومع ذلك، يبقى احتمال إرسال قوات من الناتو لمساندة الأوكرانيين مستبعدًا فى الوقت الحالى، لا سيما أن دول الحلف، وعلى رأسها ألمانيا والولايات المتحدة، تتحاشى المخاطرة بتصعيد شامل. وتدعم هذا الرأى صحيفة «فرانكفورتر روندشاو» الألمانية، التى أشارت فى عددها الصادر فى 28 أكتوبر الجارى إلى أن هناك ترددًا غربيًا واسعًا فى اتخاذ أى خطوات تصعيدية مباشرة.
أما على صعيد التحليل الغربى فيرى جيمس روجرز، مدير الأبحاث فى مجلس الجيواستراتيجية البريطانى، أن وصول القوات الكورية الشمالية يمثل «مرحلة حرجة أخرى فى الصراع»، لكنه يقلل من احتمال أن يؤدى ذلك مباشرة إلى حرب عالمية، وبدأت تنتشر فى الصحافة الغربية نغمة تقلل من تأثير التدخل الكورى الشمالى فى الحرب مفادها أن روسيا لديها بالفعل بين 600 ألف إلى 700 ألف جندى فى أوكرانيا ومحيطها، وبالتالى فإن إضافة 10 آلاف جندى كورى شمالى قد يؤدى إلى مكاسب ميدانية محدودة، لكنها لن تخلق تغييرًا جذريًا فى توازن القوى. فهذه القوات ربما تكون أكثر فائدة فى سد الثغرات التكتيكية، كما الحال فى ثغرة كورسك التى اخترقها الأوكران وحماية الجبهات الروسية، لكنها لن تكون حاسمة فى تغيير مسار الصراع.
(3)
لكن ما دوافع كوريا الشمالية للمشاركة؟
فى المقام الأول، تهدف بيونج يانج إلى اكتساب خبرة قتالية ميدانية فى حرب ذات تقنيات متطورة تشمل الطائرات بدون طيار والصواريخ البعيدة المدى، وهو ما يُمكّن جيشها من تعزيز قدراته. وإلى جانب ذلك، يبدو أن كوريا الشمالية تسعى للوصول إلى التقنيات الروسية المتقدمة، خاصة فى مجال الأسلحة النووية التكتيكية وأنظمة الصواريخ البحرية، كجزء من اتفاق طويل الأمد لدعم روسيا مقابل أسلحة أو تقنيات متطورة.
إضافة إلى المكاسب العسكرية والتكنولوجية، يبدو أن للزعيم الكورى الشمالى كيم جونج أون مصلحة استراتيجية فى تعزيز تحالفه مع روسيا؛ إذ يمكنه بذلك تأمين دعم موسكو فى مجلس الأمن من خلال حق «الفيتو» الذى يمنع أى قرارات دولية قد تهدد نظامه. كما أن التصعيد أمام القوى الغربية قد يمنح كوريا الشمالية أوراق ضغط قوية فى مواجهة التحالفات العسكرية الأمريكية المتزايدة مع كوريا الجنوبية واليابان.
• • •
هذا التدخل الكورى الشمالى يسلط الضوء على التحولات السريعة والخطيرة فى المشهد الدولي. فبغض النظر عن حجم القوات الكورية الشمالية وتأثيرها المحدود عسكريًا، تبقى دلالة هذا التدخل أكبر من مجرد إضافة جنود؛ إنها إشارة إلى تكوين تحالفات جديدة فى مواجهة الغرب، واستعداد كوريا الشمالية لتعميق دورها كلاعب عسكرى. ومع تزايد هذه التحالفات وتوسعها فى خضم حرب قائمة، يبدو العالم أمام مرحلة حرجة تتطلب من جميع الأطراف إعادة النظر فى استراتيجياتها قبل أن تأخذ الأمور منحى لا يمكن التحكم به.