«ديك أمي».. الأم الوتد والابن الذاكرة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 8:41 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«ديك أمي».. الأم الوتد والابن الذاكرة

نشر فى : السبت 30 سبتمبر 2023 - 7:45 م | آخر تحديث : السبت 30 سبتمبر 2023 - 7:45 م
لا يليق بهذه السردية الأخيرة التى تركها حمدى أبو جليل، والصادرة عن (دار الشروق)، تحت عنوان «ديك أمى»، إلا هذا الغلاف المعبر من تصميم الفنان أحمد اللباد، فقد جعل حمدى واقفا وهو يحمل صورة أمه، فتبدو ملامح وجهيهما متطابقة، منحوتة من ظل ونور، وأسفل قدم الابن ديك أحمر العرف، فكأن حمدى ديك أمه، الذى ربته، فصار تابعها ونديمها، ورجلها البديل، وعلى الأرض دائرة تتوسطها وردة، فكأنها هدية الذاكرة والذكرى إلى من تستحقها، وسط مساحة حمراء موشومة بالأحداث والوقائع، على حدودها مساحة سوداء كبيرة، تعمل كخلفية للأم ولابنها معا.
يلخص الفنان النص، ويترجم عنه، فالحكاية بالأساس عن الأم القوية، المرأة التى صارت وتدا للبيت، بعد أن كانت وتدا للخيمة، ولكن السارد هو الابن، الذى يمتلك ذاكرة حية وخصبة، لا تترك شيئا دون أن تسجله، والذى يريد أن يرد الاعتبار لأمه، بعد أن أعطت دون مقابل.
بالكتابة ستولد من جديد، بل ستصبح جزءا من نصوص ابنها، هى المرأة البدوية التى كانت من سواقط القيد، فلم تعد بالكتابة عابرة ولا منسية، صنعتْه فأبقاها مكتوبة، وسيرتها هى هويته. ورغم أنها امرأة وحيدة، فإن سيرتها ستستدعى العزبة والمدينة والبيت، والعائلة والقبيلة والنبات والحيوان والغيط، وزمنا يسرى عبر 75 عاما، أى عمرها بين الميلاد والممات، وهو أيضا عمر الوطن فى سنوات حافلة بالتغيرات والحروب.
انظر كيف كر خيط الأم ففتح الذاكرة والتاريخ الشخصى والعام؟ وكيف صارت الأم فكرة تستدعى الحياة كلها؟
ولكننا لن نفقد أبدا ملامح الأم شكلا ومضمونا، ومشروعا وطقسا، وصحة ومرضا، فرديتها وتفردها، وحضورها الإنسانى بل والصوتى من خلال لهجتها البدوية، فقد كانت آخر الجيل الذى لم يستطع أن يذوب فى لهجة الفلاحين، وإن كانت قد تحولت عمليا من البداوة إلى الفلاحة، فصارت تزرع الأرض بنفسها.
من الصحيح أن نقول إنها سيرة الأم كما كتبها الابن، ولكنها أيضا سيرة الأم والابن والقبيلة والزمان والمكان، بل هى سيرة التحولات بالأساس: مجتمع بدوى يعرف الاستقرار، ويزرع الأرض، ويعايش الفلاحين، بعد أن كان يغزو قراهم، وامرأة بدوية تنتقل إلى بيت الزوج، فتبعث فيه الحياة، وسط الموت والمرض، وترفض بيع الأرض فى موقف درامى تاريخى.
تفلح الفدان بنفسها، وتجنى المحصول، رغم أنها «هجالة»، أى أرملة وحيدة. لا تتزوج، وتربى خمسة أطفال، تعتبرهم مشروعها البديل، وبدلا من زوج كسول وضعيف، وابن أكبر يسبب لها المشكلات، تجعل من ابنها حمدى الرجل البديل، ليكون سندها فى مجتمعها الذكورى.
جاذبية النص فى أنه سيرة تحولات عبر أم عظيمة، وفى أنه «رحلة درامية» فى مواجهة قوى عاتية، ورغم أن السارد يرى أن الأبناء خذلوا الأم، إلا أنها لم تقس نجاحها على ما أنجزوه، ولكن على ما حققته هى. قاسته على صبرها وقوتها وصمودها، وعلى أدائها للواجب، وكأنها فى مهمة مقدسة، عليها أن تحققها، فلما أنجزتها استراحت، وعندما قهرها المرض، تمنت الموت، فحصلت عليه.
هنا أسطورة صغيرة على مستوى الفرد، تجعل الأمومة مرادفة للحياة ذاتها، ولذلك يقول السارد إن نهاية العالم ستكون بنهاية الأمومة، أى بعدم الزواج والإنجاب، وهنا أيضا قوة المرأة التى تعرف كيف تروض الرجل وتصنعه، مثلما تربى الديوك، وتعرف كيف تخرج الحياة من قلب البيت الحجرى الميت، بل إن السارد يتعامل مع الأرض كذلك كامرأة: يحرثها، ويضع فيها البذرة، فتعطيه القمح والذرة والفول والبرسيم، واللوحة الافتتاحية عن الأم فى الغيط، فى الأرض، فكأنهما صنوان، وكأن الأم هى الأرض، التى تقف عليها الأسرة، والحياة بأكملها.
يبدو لنا أن السرد عفوى تماما، يقوم على لوحات تتداعى بدون ترتيب، وبحكى أقرب إلى الخبر الشفاهى الحر، الذى يحمل خصوصية بيئة بدوية الأصل والتاريخ، ولكنك تكتشف تدريجيا ذكاء التوظيف الفنى لهذه العفوية، لكى تصبح شريكا فى ترتيب الحكاية، ولكى تظل يقظا لأحداثها، ويعمل بعض التكرار على ضبط هذه اليقظة، فيعادل بالضبط عبارة «يرجع مرجوعنا» فى السرد الشفاهى.
لجأ حمدى أبو جليل أيضا إلى حيلة فنية مدهشة، فاقتبس جملا حوارية للأم فى معظم اللوحات، فكأنها الساردة الأصيلة، بينما هو السارد الشبح الذى يحكى عنها، ويفصل ويوضح ما تقول، أو كأنها «سيرة الأم» كما روتها لابنها، فنقلها عنها.
عدم الترتيب يليق بحياة لم تكن مرتبة، وأفضل فى العناية بالتأثير وليس بالتتابع، وبأن تكون كل لوحة أو حادثة هامة بنفس الدرجة، وبأن نصبح أمام قصص قصيرة، تصنع قصة كبيرة.
وبسبب مرونة هذا البناء العفوى والمركب، دمج حمدى بسلاسة قصة قصيرة كتبها ونشرها من قبل، ثم اكتشفنا فى لوحة تالية أن بطلة القصة الحقيقية، كانت صديقة لأمه.
لن يسير السارد وفق ترتيب الزمن، ولكنه سيعيد تشكيله.
الكتابة تتحكم فى الزمن، بينما يفعل بنا الزمن فى الواقع عكس ذلك.
الكتابة حرية تليق بالكاتب البدوى، بالكاتب عموما، بالأم التى صارت وتدا وفكرة ومشروع حياة.
لذلك لم يبدأ بميلادها، ولكن بحضورها فى الغيط، ولن تكون الصفحة الأخيرة تسجيلا لموتها، ولكنها ستموت قبل ذلك بصفحات.
ستعيش الأم «أمثال» حرة على الورق، بعد أن عاشت مأزومة ومرتبطة بقدرها فى الواقع، وبدلا من أن تكون بطلة لمعركة واحدة، ستصبح بطلة فى كل قصة: بطلة وهى تخدم قبيلتها كأسيرة فى بيت والدها، وبطلة فى بيت زوج مريض ينتظر الموت، وبطلة وهى تزرع وتقلع وتربى أولادها وتساندهم حتى بعد زواجهم، وبطلة وهى تدفع الموت دون جدوى عن ابنتها هالة، وبطلة وهى تطلب الموت لنفسها، مثل جندى لا يكتمل خلوده إلا بموته.
«ديك أمى» سردية عن الإنسان الفرد، الصانع لتاريخه، وسط الآلام والخطوب. الإنسان كأسطورة باقية، حتى لو كان جسدا فانيا وعابرا.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات