تأكُلُ التاريخَ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 3:55 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تأكُلُ التاريخَ

نشر فى : الجمعة 31 يوليه 2020 - 7:45 م | آخر تحديث : الجمعة 31 يوليه 2020 - 7:45 م

اعتاد كثيرُ الناسِ منذ زمنٍ طويل، ومع مَقدم الأعيادِ والمُناسبات؛ أن يقضوا وقتًا بين المقابر التي تحمل ذكرى أحبائهم وذويهم. يشدون الرِحالَ إليها في الصباح، ويصطحبون شيئًا مِن الطعامِ، يتناولون قسمًا منه ويُوزعون على السائلين وقاطني المَكان ما استطاعوا.
***
سَمعت عن الشُرِيك ولم أره. قالت أمي وجدتي إنه عجينٌ مَخصوصٌ يعرفه أصحابُ الأفران جيدًا، يُطلَب مِنهم فيدركون أن الطالبَ في طريقِه إلى زيارة القرافة. كانت الأسرُ الصغيرةُ الواقعةُ في نطاقِ العائلةِ المُمتَدَّة تتبادل صِناعةَ الشُريك زيارةً بعد زيارة؛ خَبيز مُستطيل مُزدان بالسمسم وأحيانًا مَحشو بالزبيب، له طعم طيّب ورائحة نافذة لذيذة؛ تُلطّف مِن مَشاعر الحزن وتجعل المكان المُوحشَ أليفًا.
***
يُقال إن لفظةَ "قرافة" قد أُطلِقَت أولًا على المنطقةِ الواقعةِ عند أقدام المُقطَّم بجنوب القاهرة، وإن الكلمةَ مُشتَقَّةٌ مِن اسم قبيلةٍ يَمَنِيةِ الأصلِ تُدعى بنو قرافة؛ جاورت المَدافن لفترة واستأنسَت بها فتسمى مَوطِن الإقامة باسمها؛ وبمرور الوقت لم يعد المُسمَّى قاصرًا على مَنطقةٍ جُغرافية بعينِها، بل صار مُعمَّمًا على المقابرِ كلّها.
***
المقابرُ في العادة ساكنةٌ، لا صَخْب فيها إلا ما أحدث الأحياءُ القاطنون وسطها؛ لكن السكون قد يتبدد في غمضة عين وتنقلب الحال إلى نقيض. اهتزت الأرضُ منذ أيام تحتَ عِظامِ المَوتى، ووَضَعت الجرافاتُ على الأرضِ أوزارَها؛ ظهرَت ضَخمة قاسِية، سقطَ أسفلَها ما سقط؛ وراح الناسُ يستغيثون. بين الاستغاثات واحدةٌ لابنة كاتبٍ مِصريّ كبير، قيل إن رفاتَه قد أُزيحَت مِن مَثواها وَسطَ عملية الدكّ الكُبرى، ولم يعد هناك قبرٌ ولا شاهد. عَبَرت بمَوقِع الهَدمِ مُصادفةً، رأيت بقايا مِن بقايا وأشخاصًا مَكلومين، وبعضَ قواتِ أمن ومُعِدَّاتٍ، وقهرًا لا تحدُّه حدود.
***
تعاقَبت في الآونةِ الأخيرةِ ضرباتٌ عنيفةٌ قويةٌ، تحصد كُلٌّ مِنها مَعلمًا ذا قيمة يستعصى التفريطُ فيه؛ شارعًا عتيقًا، بناءً أثريًا، أو حديقة مزدهرة بما فيها ومَن فيها. أحدث المَعالمِ المَغدورة جبَّانات مِصر القديمةِ التي هُدِمَت، وحدائقُ هليوبوليس التي اجتُثَّت، وقضبانُ المترو التي وُئِدَت؛ ثمَّة ما ذهب إلى غيرِ رَجعة ولن تتسنى استعادتُه مرة أخرى، وثمَّة ما جرى تشويهُه؛ كورنيش الاسكندرية الذي سُجِن خلفَ عديد القُضبانِ والأسوار والتماثيلُ المَيدانية التي اكتسَت بألوانٍ فجَّة مَقيتة، وغيرها الكثير والكثير. المتفرجون أيضًا كثرٌ والحالُ تعاسةٌ، وفقرُ حِيلة، ومَخاوف تؤكدها الحقيقة.
***
كراهيةَ الأخضر عند فئةٍ مِن الناس قد تكون مَفهومة، أما كراهية التاريخِ والمَوروث؛ فأمر يحتاج إلى وَقفة.
***
على كُلّ حال، مَن يفتقر إلى خِصلة مِن الخِصال لا يُحبُّ رؤيتها في الآخرين، ومَن ليس له تاريخ يُفضل ألا يبقى على سَطحِ الأرضِ ما له تاريخ.
***
إذ تتوارى قيمة المَوروثِ، وتتلاشى روح الأمكنةِ، ويستحيل بهاء عتيقِها غبارا، يتآكل التاريخ. يأكله مَن يخشاه ويرغب في حذفِه، عساه يكتب تاريخًا جديدًا ويُقحِمه في ذاكرةِ الجماهير.
***
هذا العيد تغيَّر المَشهد وتبدَّلت الخريطةُ؛ أُزيلَت مَقابر لا يُعرَف عددُها، وتناثرت رفاتٌ سكنتها وسَكَنَت إليها، ومعها بادت حقبةٌ مِن الزَّمن، وفقد بعضُ الناس أمكنةً عزيزةً، لها في النفوسِ مَوضعٌ يستحيل تعويضَه.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات