خيار تركيا الأوراسى - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 7:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خيار تركيا الأوراسى

نشر فى : الإثنين 1 فبراير 2021 - 8:10 م | آخر تحديث : الإثنين 1 فبراير 2021 - 8:10 م

ما إن يتعكر صفو علاقاتها الاستراتيجية المزمنة والمضطربة مع حلفائها الأوروأطلسيين، حتى تشهر لهم تركيا فزاعة «البديل الأوراسى»، المتمثل فى انعطافها شرقا عبر تعميق تقاربها الاستراتيجى المزعج مع شركاء آسيويين على شاكلة روسيا والصين وإيران.
فبمجرد فرض الاتحاد الأوروبى عقوباته على أنقرة جراء ممارساتها العدوانية بشرق المتوسط، وتهديده بإجراءات أشد صرامة ستتبناها القمة الأوروبية نهاية مارس المقبل، بموازاة استهداف واشنطن إدارة التصنيع العسكرى التركية، بعقوبات موجعة إثر اقتنائها منظومات «إس 400» الصاروخية الروسية، مع تنامى ضغوط إدارة بايدن وتوعدها إردوغان بالمحاسبة على تجاوزات شتى، انبرى الأتراك فى التلويح بخيارهم الأوراسى لحمل الأوروبيين والأمريكيين على التراجع عن سياساتهم التصعيدية إزاء بلادهم، بينما تطايرت الشائعات بشأن إمكانية إغلاق أنقرة قاعدتى إنجِرليك وكوريجيك التركيتين، اللتين تشكلان أصولا جيواستراتيجية للناتو منذ العام 1955، فى خطوة تشى بتآكل الثقة بين الجانبين وتنذر بانهيار تحالفهما الاستراتيجى، بينما يتأهب الدب الروسى لانتهاز الفرصة وملء الفراغ الجيوسياسى الناجم عن تفكيك هاتين القاعدتين الأطلسيتين بما تحويانه من عشرات الرءوس النووية وآلاف الجنود الغربيين.
على وقع التوترات المتواصلة التى تنغص علاقاتها بالغرب، طفقت أنقرة تولى وجهها شطر منظمة شنغهاى، باسطة يدها لتوثيق عرى التعاون مع أعضائها الثمانية، حتى حصلت عام 2013 على صفة «شريك حوار» توطئة لنيل العضوية الكاملة، كما عززت حضورها الدبلوماسى والإنسانى بالعمق الآسيوى، ودشنت شراكات استراتيجية واتفاقات للتجارة الحرة مع الصين واليابان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، كما عززت العلاقات مع دول رابطة جنوب شرق آسيا العشرة، وقفزت بحجم تجارتها معهم من 1.3 مليار دولار عام 2002 إلى 9 مليارات، حتى منحتها صفتى مراقب بقوة «الآسيان» للشرطة متعددة الجنسيات عام 2014، ثم «شريك حوار قطاعى» للرابطة عام 2017. وبنفس الوتيرة، هرعت أنقرة لمد الجسور الاستراتيجية مع باكستان عبر إطلاقهما، قبل أسابيع، تحالفا ثلاثيا يجمعهما وأذربيجان بمسمى«إعلان إسلام أباد».
بحماس لافت، مضت تركيا للانفتاح على التنين الصينى، حيث ضاعفت حجم تجارتهما البينية من مليار دولار عام 2000، إلى 22 مليارا عام 2019. وبينما انتفضت بكين لإنقاذ الاقتصاد التركى المأزوم عبر ضخ القروض والمساعدات السخية، شكلت مبادرة الحزام والطريق الصينية معينا ماليا مهما لتركيا، وموطئ قدم استراتيجى للصين على البحر المتوسط. وقبل شهرين، انطلق أول قطار بضائع من تركيا ليبلغ مدينة شيان الصينية، ويعزز أهمية تركيا الجيوسياسية كممر حيوى لعبور البضائع الصينية إلى أوروبا، وهمزة وصل بين مشارق الأرض ومغاربها. أما عسكريا، فقد تعاونت تركيا مع الشركة الصينية للآلات العسكرية الدقيقة بغية نقل تكنولوجيا الصواريخ قصيرة المدى، التى ضن عليها بها حلفاؤها الغربيون، وهى الشركة التى حظيت لاحقا بمناقصة عالمية طرحتها أنقرة لاستيراد منظومات للدفاع الجوى الصاروخى بعيد المدى بقيمة 3.4 مليار دولار، قبل أن تضطرها واشنطن للتراجع عنها عام 2015.
بينما لا يبدو النزوع التركى نحو الخيار الأوراسى منبت الصلة عن جنوح إردوغان لاستلهام النموذج الإيرانى، حيث توالت تهديدات طهران بالانخراط فى شراكات مع عملاء آسيويين بمنأى عن الغرب وعقوباته، تلبد غيوم كثيفة أفق الاستراتيجية التركية الإيرانية بشأن التوجه شرقا. فإلى جانب مكابدة كل من روسيا والصين وإيران، عقوبات أوروبية وأمريكية متجددة، تبقى منظمة شنغهاى، التى تشخص إليها أبصار الأتراك، مجرد منتدى إقليمى لتعزيز التعاون الاقتصادى بين أعضائه، بمنأى عن أية ترتيبات أمنية أو دفاعية استراتيجية الطابع، حتى الآن على الأقل.
ومثلما يموج التحالف التركى الغربى ببواعث التوتر، لم يخل التقارب الحذر بين أنقرة وكل من روسيا والصين وإيران من الألغام. فعلاوة على الإرث التاريخى المثقل بمشاركة تركيا فى الحرب الكورية ضمن المعسكر الغربى المناهض للصين منتصف القرن الماضى، حتى آخر استئناف العلاقات بين أنقرة وبكين حتى 1971، ورهن ازدهارها بطى صفحة الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن المنصرم، برأسها تطل مأساة الأويغور الصينيين المسلمين ذوى الوشائج العرقية التركية، والتواقين لإقامة دولة تركستان الشرقية، على غير رغبة بكين، وبدعم تركى يفخخ التقارب المتعاظم بين الطرفين، وإن كان إردوغان يتلمس السبل لإنقاذه عبر تحييد ذلك الملف الشائك قدر المستطاع، سواء بتهدئة نبرة خطابه المؤازر لقضية الأويغور، أو إبرام اتفاقية لتبادل المطلوبين مع بكين، تتيح تسليمها قيادات انفصالية أويغورية تأويهم تركيا ضمن جالية تناهز الخمسين ألفا.
فى حين يتوقع مراقبون أن تفضى العقوبات الغربية التى تحاصر تركيا وروسيا إلى تجسير الهوة بين خصمى الأمس وشركاء اليوم، برغم الخلافات والتباينات التى تلغم شراكتهما الظرفية والمرحلية، لم يحل اتساع دائرة التعاون بين موسكو وأنقرة فى مجالى الطاقة والتسلح دون بروز خلافات معقدة حول سوريا، أوكرانيا والقرم، ليبيا، والقوقاز، وشرق المتوسط، كما لم يمنع موسكو من فرض عقوبات على أنقرة فى نوفمبر 2015، جراء إسقاطها قاذفة روسية من طراز «سو24 » فوق الحدود السورية التركية، بينما تعيق محاذير تقنية ومالية واستراتيجية شتى إبرام صفقات تسلح جديدة بين الجانبين تتحصل بموجبها تركيا على منظومات «إس 500» الصاروخية الروسية أو مقاتلات الجيل الخامس من طرازى «سوخوى 35 و 57»، متضمنة امتيازا بالتصنيع المشترك وتوطين التكنولوجيا، الأمر الذى دفع بوزير الخارجية الروسى العام الماضى للتأكيد أن بلاده تعتبر تركيا شريكا وليس حليفا استراتيجيا.
وإلى جانب الإرث الصراعى التاريخى الممتد والمتشعب بين أنقرة وطهران، ثمة نيران كامنة تحت رماد سوريا والعراق وناجورنوكاراباخ والقوقاز، لا يكبح جماحها سوى ضرورات التفاهم الاضطرارى بين القوتين الإقليميتين المتنافستين فى مواجهة التحديات المشتركة المتفاقمة.
باستثناء الأطر الاقتصادية والثقافية، يستعصى على المراقب توقع أفق استراتيجى أرحب لتوجه تركيا الأوراسى. فما زالت أنقرة، صاحبة التوجهات غربية الهوى منذ الامبراطورية العثمانية، عضوا فاعلا بالحلف الأطلسى، الذى اقتنصت عضويته، بشق الأنفس، عام 1952، وما فتئت تستقوى بقاعدة انجرليك ذات الـ 55 رأسا نوويا. ومن هذا المنطلق، ربما لا يتمخض الانعطاف المشرقى لتركيا عن أصداء مدوية لدى الغرب، الذى سبقها على هذا الدرب. فما برحت روسيا تمثل دعامة لأمن الطاقة الأوربى عبر تزويد القارة العجوز بـ 200 مليار متر مكعب من الغاز تشكل 37 %من استهلاكها السنوى، فيما لم تفلح العقوبات التى فرضتها واشنطن، وأدانها الاتحاد الأوروبى فى ديسمبر الماضى، على البنوك والشركات المنخرطة بتنفيذه، فى إجهاض مشروع «نورد ستريم 2» الهادف إلى مضاعفة صادرات الغاز الروسى إلى ألمانيا وأوروبا عبر بحر البلطيق.
وبعدما وقعت واشنطن فى يناير 2020 أولى مراحل الاتفاق التجارى مع بكين لزيادة واردات الأخيرة من المنتجات والخدمات وإمدادات الطاقة الأمريكية، بما ينزع فتيل الحرب التجارية المستعرة بينهما، توج الاتحاد الأوروبى سبع سنوات من المفاوضات مع الصين بتوقيع اتفاقية استثمار تاريخية بينهما قبل نهاية العام المنقضى، توفر لشركاتهما بيئتى أعمال وفرص تجارية متوازنة وعادلة ومنفتحة وغير تمييزية. فى غضون ذلك، أكدت دراسة لمعهد «بيرتلسمان» الألمانى، تخطى حجم الاستثمارات التى ضختها دول أوروبية فى مبادرة الحزام والطريق 290 مليار دولار، مقابل 285 مليارا خصصتها الصين، خلال الفترة من عام 2013 حتى 2017. ومنذ إطلاق العقوبات الاقتصادية الأمريكية على طهران، انبرى الأوروبيون فى ابتكار صيغة للتعاون الاقتصادى معها ضمن مساحة عمل مشتركة لا تستفز واشنطن، فكانت آلية دعم المبادلات التجارية بين أوروبا وإيران «إنستكس»، التى أعلنتها الدول الأوروبية الثلاث الموقعة على الاتفاق النووى مع إيران وهى فرنسا وألمانيا وبريطانيا بداية 2019، كأداة عمل خاصة لتسهيل ودعم المعاملات التجارية المشروعة بين طهران والدوائر الاقتصادية الأوروبية بمعزل عن العقوبات الأمريكية.
إذا كان أرسطو يرى أن «صديق الكل ليس صديقا لأحد»، فإن تشبث أنقرة المصيرى بتلابيب الغرب، حسبما تبدى فى تأكيد وزير الخارجية التركى عقب إطلاقه مبادرة «آسيا من جديد» عام 2019، لإلحاق بلاده بـ«العصر الأسيوى»، بأن أنقرة لا يمكن أن تدير ظهرها للناتو والاتحاد الأوروبى، بموازاة تشديد إردوغان على أن تنويع بلاده لعلاقاتها يأتى فى سياق التكامل وليس الاستعاضة بالانعطاف شرقا عن التحالفات الراسخة مع الغرب، وسعيه الحثيث لإذابة الجليد مع فرنسا، وتهافته على إسرائيل تزلفا لواشنطن وبروكسيل، اللتين ناشدهما فتح صفحة جديدة مع أنقرة، ثم تجديده التمسك بالحلم الأوروبى، وانكماشه أمام ضغوط إدارة بايدن، ليشى بأن تلويح تركيا بخيارها الأوراسى، التى تعلم علم اليقين أنها لن تدرك ضالتها الاستراتيجية من خلاله، إنما هو محض مناورة ضمن سياسة الابتزاز الاستراتيجى الرامية إلى تحسين شروط العلاقات المجحفة والتحالفات غير المتكافئة مع واشنطن وبروكسيل.

التعليقات