محاولة للتشخيص.. ولتحديد العلاج - جلال أمين - بوابة الشروق
الثلاثاء 3 ديسمبر 2024 1:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محاولة للتشخيص.. ولتحديد العلاج

نشر فى : الجمعة 1 يوليه 2011 - 8:11 ص | آخر تحديث : الجمعة 1 يوليه 2011 - 8:12 ص

 تُنسب لاقتصادى إنجليزى كبير، المقولة الطريفة الآتية، والتى تنطوى مع ذلك على حقيقة مهمة: «إذا طلبت من خمسة من الاقتصاديين أن يبدوا رأيهم فى مشكلة اقتصادية، حصلت على ستة آراء!».

هذه المقولة لها للأسف نصيب كبير من الصحة، ولهذا فى رأيى سببان: الأول أن تشخيص المشكلة الاقتصادية واقتراح علاج لها، لهما علاقة وثيقة، فى معظم الأحوال، بالموقف الأيديولوجى للشخص الذى يقوم بالتشخيص أو يصنف العلاج، أى علاقة وثيقة بموقف الشخص السياسى والاجتماعى، ونوع ولائه الذى يتأثر بالطبقة التى ينتمى إليها، وطموحاته السياسية.

إذا كان الأمر كذلك، فإن التشخيص والعلاج اللذين يدلى بهما الاقتصادى لابد أن يعكسا ميوله وأهواءه، فلا عجب أن يختلف الاقتصاديون فيما بينهم حول معظم القضايا التى يدلون برأيهم فيها.

السبب الثانى لاختلاف الآراء، أن المشكلة الاقتصادية ليست فى العادة مشكلة بسيطة بل معقدة ومركبة، بمعنى أنها تتأثر وتؤثر فى مشاكل أخرى كثيرة ليست كلها اقتصادية بحتة، بل يتعلق بعضها بالأحوال السياسية والاجتماعية والنفسية. وآراء الناس تختلف فى تشخيص هذه الآثار المختلفة ومن ثم فى اختيار العلاج الأنسب للمشكلة المطروحة. إلى أى مدى مثلا ترجع الزيادة الكبيرة فى الاستهلاك إلى زيادة السكان، أو إلى تغير ميول الناس، أو إلى تغير السياسة الاقتصادية، أو إلى درجة الانفتاح على العالم ..إلخ؟ أو إلى أى مدى يرجع ارتفاع معدل نمو السكان إلى عوامل اقتصادية أو اجتماعية أو دينية؟ بل هل يعمل على ارتفاع معدل نمو السكان ارتفاع متوسط الدخل أم انخفاضه ..إلخ؟ وهكذا تختلف التفسيرات والتشخصيات لأن تحديد الإجابة الصحيحة على مثل هذه الأسئلة ليس سهلا بالمرة، ويندر أن توجد الأرقام أو البيانات التى ترجح إجابة على أخرى.

لا عجب، والحال كذلك، أن تصادف إجابات مختلفة من الاقتصاديين المصريين على السؤال عن التشخيص «الحقيقى» لمشكلة مصر الاقتصادية، وعن «أفضل» وسائل العلاج. وعندما أزعم فى هذا المقال أنى سأحاول تقديم تشخيص لمشكلتنا الاقتصادية، واقتراح علاج لها، فأنا لا أتوقع بالمرة أنى سوف أقدم شيئا سيحظى بتأييد كل (أو معظم) الاقتصاديين المصريين (إذ كيف أتوقع ذلك وحالة الاقتصاديين، سواء فى مصر أو فى غيرها، هى كما وصفت؟). بل إنى أرجو فقط (بالإضافة إلى الحصول على تأييد بعض الاقتصاديين الذين يشتركون معى فى نفس التحيزات والميول السياسية والاجتماعية، وكذلك تأييد بعض من لا يتركون العنان لعواطفهم فى رفض كل ما يبدو متعارضا مع تحيزاتهم) أن ألفت النظر إلى أهمية بعض العوامل التى ساهمت فى خلق مشكلتنا الاقتصادية الحالية، وازديادها سوءا، ومن ثم ألفت النظر أيضا إلى بعض الشروط المهمة واللازمة للخروج من هذه الأزمة.

هذه العوامل والشروط التى سأحاول لفت النظر إليها وتأكيدها، قد لا تكون اقتصادية بحتة. بل هى فى الحقيقة ليست اقتصادية بحتة، ولكننا يجب ألا نستغرب ذلك. فالاقتصاد، كما ذكرت حالا، يتداخل بشدة مع السياسة ومع الظروف الاجتماعية والنفسية السائدة، ومن ثم فمن الممكن جدا أن يكون الاقتصاديون غير كافين بالمرة لإرشادنا إلى الطريق الصحيح، خاصة إذا كانوا من هؤلاء الاقتصاديين الذين لا يفكرون إلا فى الاقتصاد، أو لا يرون غيره. فإذا كان من الصحيح القول بأن الحرب أخطر من أن تترك للعسكريين وحدهم، فإن تشخيص وحل مشكلتنا الاقتصادية لا يمكن أن يعتمدا فقط على اقتصاديين تضيق مخيلتهم عن استيعاب ما يتجاوز الأمور الاقتصادية.

●●●

إذا أردنا أن نبدأ البحث عن جذور مشكلتنا الاقتصادية الحالية، فإلى أين نذهب بالبحث والتنقيب؟إنى أعتقد أن جذور مشكلتنا الاقتصادية الحالية تبدأ من الهزيمة العسكرية فى 1967. (أعرف أنى بمجرد أن أقول هذا سأفقد تعاطف فريق كبير من الاقتصاديين المصريين الذين لا يتعاطفون بالمرة مع العهد الناصرى، لأسباب شتى بعضها لا علاقة له بالاقتصاد، ومن ثم فهم يفضلون أن يحددوا بداية التدهور ببداية العهد الناصرى، بل وربما بقيام ثورة 1952. وأنا أفهم هذا الموقف جيدا، بل ولا أعفى النظام الناصرى من بعض الأخطاء الجسيمة، ولكنى أعتقد أن أخطاء هذا النظام فى الميدان الاقتصادى لم تكن جسيمة، بل أعتقد أن انجازات ذلك العهد الاقتصادية كانت واقعة، وقد تمثل سوء حظ مصر فى هذا الميدان، ليس فيما فعله عبدالناصر بالاقتصاد، بل فيما فعله أعداء مصر بالاقتصاد المصرى والسياسة المصرية على السواء).

أعود لأقول إن نقطة البداية المشئومة كانت هزيمة 1967، أى منذ 44 عاما. فمنذ ذلك الوقت أصبح الاقتصاد المصرى اقتصادا عليلا. لم يكن عليلا فى السنوات العشر السابقة (57 ــ 1967)، وقد ظل عليلا منذ ذلك الوقت، أى منذ 1967 وحتى الآن وكما يجب على الطبيب الذى يبحث عن التشخيص الصحيح للمرض وأفضل طرق علاجه، أن يميز بين الأسباب الأصيلة للمرض وبين أعراض المرض، فإنى سأحاول أن أفعل الشىء نفسه فيما يتعلق بمشكلتنا الاقتصادية، فأميز بين الأسباب الأصلية للمشكلة وبين نتائجها وأعراضها. وسوف يلاحظ القارئ أنى سأضع بين النتائج والأعراض، مشكلات قد يعتبرها كثيرون مشكلات أساسية، بل وقد يعتبرها بعض الاقتصاديين أس البلاء، والمسئولة عما عداها مما يشكو منه. سوف أعتبر من قبيل النتائج، أو من قبيل المشكلات الثانوية أو حتى الأعراض، مشكلات مهمة مثل تباطؤ معدل نمو الناتج القومى، (ومن ثم تباطؤ متوسط الدخل وبتاطؤ التحسن فى مستوى المعيشة)، وتباطؤ معدل التصنيع، واتساع الفجوة بين الدخول، وارتفاع معدل البطالة، وارتفاع معدل التضخم، واتساع العجز فى الميزان التجارى، وتدهور سعر الصرف، وزيادة الديون الخارجية والداخلية، وتدهور مستوى الإنتاجية، وتدهور مستوى التعليم.. إلخ، ولابد أن هناك أشياء أخرى كثيرة يمكن ضمها إلى ما أعتبره من النتائج أو الأعراض، وليس من الأسباب الأصيلة أو الأساسية للمرض.

ما الذى اعتبره إذن السبب الأصيل لمشكلتنا الاقتصادية، أو الموطن الأصلى لمرضنا الاقتصادى؟ قبل أن أجيب عن هذا السؤال أود أن أذكر ملاحظتين:
الملاحظة الأولى: إن أعراض مشكلتنا الاقتصادية (أو ما أسميه بالنتائج وليس السبب الأساسى للمشكلة) وإن كانت قد بدأت فى 1967، ومازالت موجودة حتى اليوم، فإنها لم تسر بوتيرة واحدة طوال هذه الفترة (أى طوال الـ44 عاما الماضية).

كانت هذه الأعراض فى بعض السنوات أسوأ منها فى غيرها، بل حدث أن مرت هذه الأعراض فى بعض السنوات بتحسن ملحوظ. وإنما يرجع قولى أنها استمرت منذ 1967 وحتى الآن، إن التحسن فيها، عندما كان يحدث، كان يحدث دائما نتيجة أسباب عارضة لا يمكن الاطمئنان إلى استمرارها، ومن ثم فبمجرد زوال هذه الأسباب العارضة كانت أعراض المرض تعود من جديد، بل وربما أشد مما كانت. والحال هنا يشبه انخفاض حرارة الجسم بنتيجة استخدام الاسبرين أو أى مخفض عارض للحرارة، إذ لابد أن تعود الحرارة إلى الارتفاع بعد انتهاء أثر هذا المخفض، طالما كانت الأسباب الرئيسية للمرض قائمة ولم يتم القضاء عليها.

خذ على سبيل المثال ما حدث لمعدل نمو الناتج القومى لقد تدهور بشدة فى السنوات الثمانى التالية لهزيمة 1967 (67 ــ 1975)، ولكنه تحسن بشدة فى السنوات العشر التالية (75 ــ 1985). ثم تدهور معدل النمو بعد ذلك وظل منخفضا لمدة عشرين عاما (1985 ــ 2005)، ثم تحسن مر أخرى فى السنوات الثلاث (2005 ــ 2008) ثم انخفض مرة أخرى ولايزال منخفضا.

لقد كان التحسن لأسباب عارضة غير مضمونة الاستمرار. ففى الفترة (75 ــ 1985) كان التحسن فى معدل النمو ناتجا عن ارتفاع أسعار البترول وإعادة فتح قناة السويس وتدفق تحويلات العاملين بالخارج، وكلها نتيجة لظروف خارجية غير عادية، وواهية الصلة بمدى قوة أو ضعف بنيان الاقتصاد المصرى. فلا عجب أن عاد معدل نمو الناتج القومى إلى الانخفاض بمجرد انخفاض أسعار البترول فى منتصف الثمانينيات وتراخى معدل الهجرة ثم شهد معدل نمو الناتج القومى ارتفاعا ملحوظا فى السنوات الثلاث (2005 ــ 2008) بسبب قفزة الاستثمارات الأجنبية الخاصة، ولكن هذا أيضا لم يكن نتيجة لاسترداد الاقتصاد المصرى لقوته، بل لأسباب تعود فى رأيى لظروف خارجية لا يطمأن إلى استمرارها، وقد انخفضت هذه الاستثمارات الأجنبية بشدة، على أى حال، بمجرد حدوث الأزمة العالمية فى 2008.

يمكن أن نقول شيئا مماثلا عن مشكلة البطالة. فالتحسن فى حالة البطالة الذى حدث فى السنوات العشر (75 ــ 1985) لم يحدث بسبب تحسن حالة الاقتصاد المصرى أو ترشيد السياسة الاقتصادية بل لمجرد ظهور فرص هائلة للهجرة إلى بلاد البترول عقب ارتفاع أسعاره فى 73/ 1974 ثم فى 1979، وحتى انكمشت هذه الفرص فى منتصف الثمانينيات (بسبب انخفاض أسعار البترول) عادت حالة البطالة إلى التدهور، واستمرت فى التدهور حتى اليوم، رغم كل ما يقدم من أرقام للتدليل على تحسن مزعوم فى بعض السنوات.

بل أستطيع أن أقول الشىء نفسه عن كل ما أعتبره أعراضا للمشكلة الأساسية، أو نتائج لها (كالعجز فى الميزان التجارى وزيادة المديونية الخارجية والداخلية، وارتفاع معدل التضخم وتدهور سعر الصرف.. إلخ). فالتحسن الذى كان يحدث فى أى منها فى بعض السنوات كان تحسنا لظروف طارئة ليست ناتجة عن تحسن فى حالة الاقتصاد أو السياسة الاقتصادية. هل كان الانخفاض الكبير فى المديونية الخارجية مثلا، عقب الغزو العراقى للكويت، نتيجة تحسن فى أداء الاقتصاد المصرى، أم بسبب قرار أمريكى بإعفاء مصر من بعض ديونها لتسهيل مهمة الأمريكيين فى الخليج؟ وهل كان التحسن فى حالة التضخم فى التسعينيات بسبب أداء اقتصادى أفضل أم بسبب سياسة انكماشية فرضها علينا صندوق النقد الدولى ابتداء من 1991، فخففت من حدة التضخم ولكنها أضرت بمعدل نمو الناتج القومى وزادت من معدل البطالة؟

الملاحظة الثانية: أنى لا أنكر بالمرة أن بعض المشكلات التى وصفتها بالثانوية أو بأنها أعراض لمشكلة أعمق، لها أهمية قصوى، فوصفها بأنها «أعراض» لا يعنى قلة أهميتها بل مجرد أنها ناتجة عما اعتبره المشكلة الأساسية، ومن ثم لا يمكن علاجها إلا بعلاج المشكلة الأساسية.

هل ينكر أحد مثلا أهمية تدهور نظام التعليم فى مصر، وأثره فى تدهور مستوى الإنتاجية، بل وحتى فى ارتفاع معدل البطالة؟ كذلك هل يمكن لأحد أن ينكر الأضرار الناتجة عن ارتفاع معدل نمو السكان، وكم كان يمكن لمستوى المعيشة أن يكون أفضل منه الآن لو كان معدل نمو السكان أقل مما هو؟ كلا لا يمكن لأحد أن ينكر هذا. كذلك ذهب أحد اقتصاديينا الكبار فى مقال حديث إلى أن مشكلتنا الأساسية هى استمرار العجز فى الميزان التجارى، أى عجز الصادرات عن أن تلحق بالواردات. فهل يمكن لأحد أيضا أن ينكر أن استمرار هذا العجز يمثل عقبة خطيرة فى سبيل رفع مستوى المعيشة؟ كلا لا يمكن أن ننكر هذا أيضا. ولكنى أعود فأقول إن هذا العجز فى الميزان التجارى، وكذلك استمرار معدل النمو المرتفع فى السكان (وتدهور نظام التعليم) تعود إلى شىء آخر أعتبره العلة الأساسية.

هذه العلة الأساسية هى فى رأيى، ما أصاب الدولة المصرية من ضعف شديد عقب هزيمة 1967 (وإلى حد كبير بسببها)، فأصاب إرادتها الشلل، واستشرى الفساد، وسيطر المال على السلطة، وتحكم الدافع إلى تحقيق المزيد من الثراء، فى القرارات السياسية، واستسلمت الدولة بالتدريج لإرادة قوى خارجية لها أغراض مختلفة تماما عما فيه صالح المصريين، وتتعارض مع اتخاذ الحلول الحاسمة لمشاكل الاقتصاد المصرى.

هذا هو فى رأيى التشخيص الصحيح لمشاكل مصر الاقتصادية. فإذا كان هذا هو التشخيص الصحيح حقا، فلا علاج إلا باستعادة الدولة المصرية قوتها، ونفض غبار هذه الرخاوة الفظيعة التى أصابتها منذ أكثر من أربعة عقود، واستمرت طوال عهدى السادات وحسنى مبارك. ولهذا فإنى أعتبر أن أهم أمل يمكن تعليقه على ثورة 25 يناير، وإسقاط نظام مبارك، من حيث تحقيق الإصلاح الاقتصادى، هو استعادة الدولة المصرية لقوتها.

من نافلة القول أنى لا أقصد عودة الدولة البوليسية التى تخلصنا منها بإزاحة نظام مبارك، لا أعادها الله إلى مصر. فالدولة البوليسية ليست فى الحقيقة دولة قوية، بل دولة فاسدة، تحاول حماية فسادها بقهر مواطنيها. وهى دولة فاشلة فى كل شىء إلا فى تسهيل جمع المال للممسكين بالسلطة، ولا تطبق من القوانين إلا ما يسمح لهؤلاء بمزيد من الثروة، وهى فى نفس الوقت دولة ضعيفة إزاء الجميع، فى الخارج والداخل، إلا فى قهر المعارضين وإذلال المواطنين.
كذلك فإنى لا أقصد بالدولة القوية المطلوبة الآن لمصر، نسخة طبق الأصل من دولة الخمسينيات والستينيات. فالعالم تغير تغيرا شديدا فى الخمسين أو الستين عاما الماضية. وكثيرا مما كان يصلح منذ خمسين عاما لم يعد يصلح الآن.

نعم، لا يمكن فى رأيى حل مشكلات مصر الاقتصادية إلا باستعادة الدولة القوية، ولكن بمواصفات تساير روح العصر وتستجيب لمتطلباته.

لماذا اعتبر أن غياب الدولة القوية هو المرض الحقيقى الذى تولدت عنه مختلف المشكلات الاقتصادية التى نشكو منها الآن فى مصر؟ وما هى بالضبط مواصفات «الدولة القوية» المطلوبة اليوم لعلاج هذه المشكلات؟ أرجو أن أجيب عن هذين السؤالين فى المقال التالى.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات