فى حشد فنى مهيب، يموج بصناع ومبدعى الفن السابع؛ من مخرجين، ومنتجين، وصحفيين ونقاد تحوطهم جماهير غفيرة متعطشة لملاقاة رهط من ألمع نجوم السينما العالمية؛ توهجت جزيرة الليدو الإيطالية، مساء الأربعاء الماضى، بأهازيج افتتاح الدورة الثانية والثمانين لمهرجان البندقية السينمائى الدولى «الموسترا».
عبر ملمحين بارزين، اقتنصت مأساة غزة لنفسها مساحة نادرة من فعاليات أقدم المهرجانات السينمائية على وجه البسيطة. أما أولهما، فتجلى خلال اليوم، الذى سبق حفل الافتتاح مباشرة؛ حيث انطلقت مسيرات شعبية داعمة للفلسطينيين، تخللتها دعوات لإدانة الانتهاكات الإسرائيلية ومحاسبة مرتكبيها. وعلى وقع مطالبة جماعة تطلق على نفسها اسم «البندقية من أجل فلسطين»، باتخاذ موقف جماهيرى يدين، بقوة، جرائم جيش الاحتلال فى الأراضى الفلسطينية، أعرب المدير الفنى للمهرجان، ألبرتو باربيرا، خلال استعراض لجنة التحكيم، عن أسفه لتلك الجرائم. ورغم إلحاح الجماعة، تجنب الرجل ذكر إسرائيل صراحة، كما رفض استبعاد بعض النجوم العالميين المؤيدين لها، كمثل: جيرارد باتلر، وجال جادوت، بطلى فيلم «إن ذى هاند أوف دانتى»، الذى يعرض خارج المسابقة الرسمية.
يتأتى الملمح الثانى الأبرز، فى الثالث من الشهر الجارى، حيث يُعرض، ضمن المسابقة الرسمية، الفيلم الروائى العربى «صوت هند رجب»، للمخرجة التونسية المتألقة، كوثر بن هنية. فعبر معالجة درامية متقنة ومؤثرة، يتناول الفيلم تراجيديا مأساوية للطفلة الغزية، هند، وعائلتها؛ الذين قتلهم جيش الاحتلال، عمدا وبدم بارد، أثناء عدوانه الخامس على القطاع.
ففى 29 يناير 2024، كانت هند ذات السنوات الست، رفقة أقاربها داخل سيارة بمنطقة تل الهوا، يحاولون الفرار من جحيم عدوان الاحتلال ومجاعته. لكن دباباته أطلقت نيرانها على سيارتهم، فقتلت عمّها، وعمّتها وثلاثة من أبناء عمومتها. بينما بقيت، هند، عالقة وسط الجثث داخل السيارة لساعات، تتوسل النجاة، عبرالتواصل، هاتفيا، مع والدتها وجمعية الهلال الأحمر الفلسطينى، على مسمع من العالم أجمع. وخلال محادثتها المطولة والمروعة فى آنٍ، ناشدت والدتها المجىء وإخراجها من السيارة المتفحمة بجثث ذويها، الذين قضوا، فيما بقيت هى، مؤقتا، الناجية الوحيدة. وبصوت يغمره الهلع والبراءة، كانت ترجو أمها عدم إنهاء المكالمة قبل وصول من ينقذها. بدورها، حاولت الأم طمأنتها بأن الدفاع المدنى الفلسطينى سيدركها ويخلصها. وطلبت منها مواصلة الحديث الهاتفى، موصية إياها الابتهال إلى الله والتماس النجاة منه. وبعد سبعين دقيقة مرعبة من حوارات الاستغاثة، التوسل والألم؛ انتهت المكالمة، بانقطاع صوت هند؛ ليتبين لاحقا أن دبابات الاحتلال أسكتت صوت البراءة وغيّبت صاحبته إلى الأبد. وبينما كان المسعفون يسابقون الزمن للوصول إليها دون جدوى؛ تم العثور، فى العاشر من فبراير قبل الماضى، وعقب انسحاب قوات الاحتلال من المنطقة، على جثة، هند، رفقة أفراد عائلتها والمسعفين، الذين استشهدوا أثناء محاولتهم إنقاذها. وفى سرد سينمائى ساحر ومؤثر، يستعرض الفيلم مأساة، هند، التى بقيت محاصرة، ساعات، داخل سيارة، تتلظى وتموت مرات بين جثث أقاربها. كما يوثق استغاثاتها الهاتفية المؤلمة والبريئة. ويسلط الضوء كذلك على التحديات، التى كابدها طاقم الإسعاف أثناء محاولته الوصول إليها، إذ تعرض لإطلاق نار مباشر من قبل جيش الاحتلال، مما أدى إلى استشهادهم، وبقاء أشلائهم، أياما، مبعثرة فى مسرح الأحداث.
بدأت رحلة مخرجة الفيلم مع مشروعها السينمائى الإنسانى العبقرى، بسماعها مقطعا صوتيا من مكالمات، هند رجب، مع الهلال الأحمر الفلسطينى ووالدتها. حيث تملكها شعور يمزج ما بين العجز والحزن الشديدين، حتى ظنت أن الأرض تهتز من تحتها. وعلى الفور، تواصلت مع الهلال الأحمر الفلسطينى للاستماع إلى التسجيل الصوتى كاملا. وعلى إثر ذلك، قررت التفرغ لإنتاج الفيلم، الذى يمثل نقلة نوعية إضافية فى مسيرتها الفنية الناصعة. حيث تُعد، بن هنية، من أبرز الأصوات السينمائية فى العالم العربى، إذ تعشق الاقتحام البطولى للقضايا الإنسانية الشائكة والمعقدة. فمن خلال أعمالها العميقة ولغتها السينمائية الراقية، تحاول، إثبات أن السينما ليست مجرد انعكاس للواقع، بل أداة قوية للمقاومة والتغيير، وصوتا يحمل معاناة المنسيين والمهمشين إلى المنصات العالمية. وقد وضح ذلك جليا فى أفلام من قبيل: «على كف عفريت»، الذى مثّل تونس فى الترشح لجوائز الأوسكار عام 2018. وكان مستوحى من قصة حقيقية لفتاة، تواجه منظومة مجتمعية قمعية بعد تعرضها للاغتصاب. ثم فيلم «الرجل الذى باع ظهره» عام 2020، والذى حظى بترشيح رسمى لجائزة الأوسكار، لأفضل فيلم دولى. أما فيلمها الوثائقى «بنات ألفة»، فقد تعرض لقضية «تسفير الإرهابيين» من تونس إلى «داعش» وأخواتها، من خلال قصة أم فقدت ابنتيها، بعد استدراجهما لذلك المجهول. ومن خلال إبداع فريد يمزج بين الروائى والوثائقى، تأهل الفيلم لقائمة الأوسكار القصيرة، للعام 2024.
فى مأثرة لم ينالها فيلم وثائقى أو روائى عربى عن القضية الفلسطينية، حظى «صوت هند رجب»، بدعم دولى ملفت. حيث انضم بعض كبار نجوم هوليوود، على شاكلة، براد بيت، خواكين فينيكس، رونى مارا، وغيرهم، إلى فريق إنتاجه التنفيذى. بموازاة ذلك، شنّ الكاتب، والمخرج، والمنتج السينمائى البريطانى، مارك أدرلى، هجومًا لاذعًا على رئيس الوزراء الإسرائيلى، نتنياهو، بعدما حاول تحميل «الخوارزميات» مسئولية تصاعد الانتقادات العالمية لإسرائيل، جراء عدوانها المفجع على غزة. ففى مقطع فيديو نُشر على حسابه فى إنستجرام وتداولته منصات التواصل الاجتماعى، اعتبره «أحد أكثر البشر شرا وخبثا على وجه الأرض»، متهما إياه بالتذرع بالخوارزميات ووسائل التواصل، للتهرب من مسئوليته عن الكارثة الإنسانية فى غزة. مشددًا على أن ما يشهده القطاع لا يمكن اختزاله فى معركة إعلامية أو تقنية، لأنه، بحق، معاناة بشرية كابوسية مروّعة يعيشها المدنيون الفلسطينيون يوميًا.
فجرت مأساة، هند، غضبًا دوليًا واسعًا، استتبع استنفارًا جماهيريًا لتخليد ذكراها. ففى الولايات المتحدة، قررت حشود طلابية بجامعة كولومبيا، إطلاق اسمها على مبان جامعية. وفى فبراير 2024، تم الإعلان فى بروكسيل، عن تدشين مؤسسة «هند رجب»، لملاحقة سياسيين وعسكريين إسرائيليين، عبر تقديم دعاوى قضائية ضدهم حول العالم، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فى قطاع غزة. حتى يتم تعقبهم ورصد تحركاتهم خارج دولة الاحتلال، مع المطالبة بتوقيفهم فى الدول، التى يزورونها. ولقد تقدمت المؤسسة بطلبات اعتقال لنحو ألف ضابط وجندى إسرائيلى يحملون جنسيات مزدوجة فى دول مثل: إسبانيا، أيرلندا، جنوب إفريقيا، المغرب، النرويج، بلجيكا، قبرص، سريلانكا، هولندا، البرازيل، تايلاند، صربيا، وفرنسا.
ومنذ بداية العدوان على غزة فى السابع من أكتوبر 2023، تم تقديم خمسين شكوى ضد جنود احتياط إسرائيليين فى الخارج، وفتح 12 تحقيقًا بعدة دول. الأمر، الذى اضطر وزارة الخارجية الإسرائيلية، إلى التنسيق مع جهاز الموساد، بغية تخليص العديد من الجنود والضباط العالقين حول العالم، وتهريبهم من هذه الدول. وفى الأرجنتين، قدم محاميان حقوقيان، الجمعة الماضية، شكوى جنائية أمام محاكم اتحادية، لاعتقال، نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، إذا ما وطأت قدماه البلاد، ضمن زيارة محتملة له الشهر الجارى.
يكابد جيش الاحتلال حالة من الإرباك والتخبط الشديدين، إذ تطارده هواجس الملاحقة القانونية وتتملكه مخاوف اعتقال جنوده وضباطه أثناء وجودهم خارج البلاد. فلقد كشفت مديرية الأمن العام والمعلومات التابعة له، أن الجنود والضباط الذين يشاركون فى العدوان على قطاع غزة، ينشرون صورا وفيديوهات توثق جرائمهم هناك. حتى أنهم يقومون، يوميا، بنشر وتحميل نحو مليون مادة على وسائل التواصل الاجتماعى. وهى التى يتم استخدامها كأدلة إثبات فى الشكاوى والدعاوى القضائية، التى تقدم ضدهم حول العالم. لذا، أصدرت قيادة رئاسة هيئة الأركان تعليمات مشددة، دخلت حيز التنفيذ على الفور، بإخفاء هويات الجنود والضباط المشاركين فى العدوان على قطاع غزة. مع فرض قيود على سفرهم للخارج، وحظر نشر الصور والفيديوهات وأسماء العسكريين والمضامين، التى قد تستخدم كأدلة إثبات ضمن الدعاوى المنظورة أمام المحافل الدولية.
عقب عرضه، لأول مرة، ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية، سيتم عرض فيلم «صوت هند رجب»، بمهرجانات سينمائية دولية شتى فى دول مثل: كندا، إسبانيا، اليابان، بولندا، البرتغال، تايلاند، تركيا، دول البلطيق وهونج كونج. فلعلها تكون فرصة لمخاطبة الرأى العام العالمى بلغة مغايرة. ولربما تكون السينما أعمق أثرا، وأمضى سبيلا لإيقاظ ضمير المجتمع الدولى، واستنهاض قياداته، بغية المسارعة باتخاذ ما يلزم، لإنهاء المأساة الفلسطينية.