رسالة «فَشّ خُلق» في مطلع العام الجديد - ريهام سعيد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 12:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رسالة «فَشّ خُلق» في مطلع العام الجديد

نشر فى : الخميس 2 يناير 2014 - 5:05 م | آخر تحديث : الخميس 2 يناير 2014 - 5:05 م

عزيزي القارئ.. «فريدريكو فيلليني» هو مخرج إيطالي عظيم، قدّمت لي سيرته الذاتية نوعًا خاصًّا من الونس وسط الحرب النفسية الدائرة على مدار العام الفائت، كنت أرغب في الحقيقة في شيء من الفضفضة معه، فقررت أن أكتب له، يمكنك أن تبحث عمن كان له ذات التأثير في عامك، اكتب له وأخبرني عن ذلك إن أمكن..

وعمومًا؛ احكِ و"فِش خُلقك" كما يقول الشوام!

*****

عزيزي «فيلليني»:

هل سمعت الخبر؟ صدرت سيرتك الذاتية بالهيئة العامة للكتاب في بلدنا المصون، بـ8 جنيه بس، سبَّب ذلك للكثير من آل القراءة في بلدنا سعادة غامرة، أعرف فتاتين تبادلتا نسخًا منها عبر البريد بين الفيوم وأسيوط -دي محافظات عندنا يعني- نشعر جميعًا أن الكتاب أشبه بكتالوج عملي للتعامل مع المهزلة الحادثة لنا كأحياء على وجه البسيطة، لا أحد يمكنه مقاومة اقتناء كتالوج مشابه في ظروف مشابهة..

أكتب لك الآن وأنا أحاول باستماتة فرد قدميّ المكوّرتين في مسافة غير منطقية بين كرسيين بميني باص، أجلس في طريقي المعتاد من المنطقة الحرة بمدينة نصر إلى السيدة زينب، المنطقتان تبعدان عن بعضهما مسافة كافية تمامًا لجعل الراكب يُصاب بكراهية مزمنة للحياة، ويفكر جديًا في الزهد والتبرع بمقتنياته لـ... هنا يواجه الراكب مشكلة، فلا يوجد شخص أسوأ منه حالاً ليتبرع له!

الباص يترجرج مثل ڤايبريشن موبايل، نمرُّ بكل المناطق المزدحمة والملوثة واللي فيها قلق، هلا رافقتني قليلاً؟ سأحكي لك مجموعة من الأشياء التي لا تملك سوى رابط وحيد: كونها حدثت على مدار الحياة اليومية في مدة عام.

البمب اللي فرقع في جناين مصر

هذا العنوان متعلق بمانشيت ارتبط بحياتنا، يحاول توصيف شهداء الثورة كورد يتفتح في جناين مصر، إلا أنه نتيجة للزيادة في معدل إنتاج الشهداء مقابل التناقص في معدل تحقيق أي حاجة، أصبح المانشيت إفيه يمكن تعديله بأي شكل.. فهناك القط اللي نَوْنَوْ في جناين مصر، والقطر اللي خبط في عربية نقل واتقلبوا هما الاتنين على جناين مصر، وأخيرًا: البمب اللي فرقع في جناين مصر... حسنًا كنت ستحب المصريين لهذا السبب وحده، لدينا خبرة عملية غريبة في تحويل المآسي إلى كمية مهولة من الإفيهات.

المهم، ظل الناس يدندنون "قوم نحرق ها المدينة" لمدة عامين، وعندما احترقت جلسوا يهيلون التراب على وجوههم.. تحدث انفجارات في الشوارع واعتداءات وحرائق، هذا العام شهد معدلات غير مسبوقة في القتل والسحل والحوادث الغريبة على جميع الأصعدة، ولجميع الفرق.

يُقتل الناس دون دية فيمر خبر موتهم مرور الكرام، إلا أن اعتقالهم يحوز اهتماماً أكبر لسبب مجهول، وهناك منظومة قواعد سرية هي التي تحدد هنعمل حداد على مين ومش هنعمل حداد على مين، خلي بالك يعني..

اقترح أحدهم أن نُغيِّر أحد شعارات الثورة ليصبح: "عيش، حرية، موتة طبيعية"، ونفكنا من موضوع الكرامة الإنسانية ده بقى عشان لسه فاضل عليه شويه، أعتقد أن الفكرة ستحوز موافقة جماعية!

 وقت مستقطع:

ها نحن يا عزيزي نمر بمثال لمحطة زحام في محاولة لمغادرة مدينة نصر المنكوبة، استنى كده.. آها.. بالظبط، دلوقتي حالاً، حاول تستنشق كده؟

الله.. عادم بيور مختلط بغاز مسيل للدموع، نسبة الهواء 0.2% تقريبًا مع بعض الروائح التي لها علاقة بعدم وجود بنية تحتية أو فوقية.. كتل الهواء الباردة جدًّا والملوثة جدًّا ستصيبك بنوع خاص من الصداع سيصبح مسؤولاً عن تخدير أنفك وتضييق خُلقك، مع بعض الحرقان في الصدر والعينين.. أنا آسفة لوضعك في تجربة مشابهة، إلا أنها كانت ستفيدك كثيرًا في صياغة مشهدية متقنة إن نقلتها في أحد أفلامك، أنت تعتقد مثلي أن التجربة المعاشة وحدها تتمكن من شرح أي شيء.. هذا تقريبًا هو الهدف من كل ما يحدث، أليس كذلك؟!

ستظل في الطريق تستنشق غازًا مسيلاً لدموع فرقة لم يعد يهمك أن تكون ضدها أو معها، وستشاهد حرائق لا تعلم من أقامها، يقولون إن الحكومات الغبية هي التي تستعدي الطلبة، ونحن نبحث وراء الطلبة بمنكاش ونفكر في كيفية إثارة غضبهم.. أنا واثقة من قدرتك على تحويل التظاهرات الجامعية الأخيرة إلى ملحمة فانتازية ملهمة، يُرقَص بها الباليه وسط الدخان.. أليس هذا ما يقولونه عادةً؟! إنه علينا أن نحوِّل الأحداث المؤلمة إلى فن؟

وعمومًا، إن بقيت معنا هنا، لن تستطيع أن تستكمل حياتك ببساطة دون أدنى اهتمام، سيتم وصمك بإنك "ماعندكش دم" إذا تجاهلت كل ما يحدث!

مشهدان يصلحان لفيلم من أفلامك:

حسنًا، يوجد حالة من الهسس في هذا البلد لها علاقة بما ترتديه البنات، منذ مدة استيقظت متأخرة جدًّا واضطررت لارتداء بنطلون ضيق إلى حد ما، حيث إنني لم أجد البنطلون الواسع، وبقيت بقية اليوم أكابد مجموعة من نظرات الاحتقار..

كل ما كنت أفكر فيه هو مكياج «جوليتا ماسينا» كبلياتشو في فيلم «الطريق»، أرغب في وضع مكياج مشابه وتعليق يافطة على رقبتي كي أكتب عليها مبرراتي بشكل دوري.. يعني مثلاً في مثل الحالة السابقة كنت سأكتب "أصل البنطلون الواسع في الغسيل"، وإذا ظهرت خصلة من شعري سأكتب "أصل الإيشارب ده من النوع اللي بيتزحلق"، وهكذا في كل أمور الحياة، أنا مضطرة دائمًا لتبرير كل الأمور التافهة، سأوفر عليهم التساؤل إذن وأوفر على نفسي الغضب.

هناك مشهد آخر..
دخل رجال الشرطة لجان الامتحانات ليلقوا القبض على مجموعة من الطلبة أثناء تأدية الامتحان، وعندما اعترض بعض المراقبين على ذلك قبضوا عليهم هُمّ كمان! كما أنهم ألقوا القبض على بعض الناشطين من مكاتبهم، وعندما جاء محاميهم قبضوا على المحامي شخصيًّا..

هذه الفكرة هزلية لاذعة لائقة بفيلم عظيم، أو مسرح أيضًا.. ربما سيُلقى القبض عليّ لأنني كتبتها، وسيحاولون القبض عليك لأنها أضحكتك، سيعرفون أنك ميت فسيقبضون على الورثة، ولا يكون عندك فكرة يعني!

يمكنك استخدام المشهدين إن كنت تصنع أفلامك في السماء حتى الآن.

جائزتان مهمّتان وبضع حقائق:

- الحائز على جائزة «مننا وعلينا» للعام الفائت هو موقع «جوجل»، حيث إننا نصل جميعًا إلى أعمالنا في الصباح مش شايفين قدامنا وبؤساء وقبل ما نستفتح ونرش ميه، نجد جوجل يحتفل بذكرى «ليونيداس دا سيلفا» لاعب كرة القدم البرازيلي، أو «كلارا شومان» عازفة البيانو الألمانية أو «دييجو ريفيرا» المكسيكي ورسوماته الدافئة أو «صلاح جاهين» وليلته الكبيرة.. تُرسم صورة أحدهم بطيبة ونية واضحة لإبهاج من سيراها، وتُرفق بأنيميشن لطيف أو ربما لعبة، ننتبه ونجد بداية منطقية لليوم، أصبحت زيارة الموقع جزءًا لا يتجزّأ من الاصطباحة.

عدة بدايات كانت من نصيبنا خُتمت جميعها ببانر لـ«2013» راقصة تقف الـ 4 خارجها في انتظار الانضمام للرقص، قبل أن تنزاح الـ 3 مُرهقة ومودّعة..

- أما جائزة «أكثر مكان يساعد البشر على الحياة في بلاعة القاهرة»، حازتها الأوبرا المصرية باقتدار، والتي توفر لنا «أوبشن» أن نترك الحروب وطلق النار الحي وصراعات التخوين وخصومات المرتب ومأساة الشارع، ونتأنق لنحضر باليه بحيرة البجع، أو نستمع إلى كونشرتو بيانو وموسيقى حجرة، نطير مع يحيى خليل ومنال محيي الدين، نزقطط مع بساطة، نشعر بأننا برغم كل شيء على قيد الحياة!

أما عن الحقائق يا عزيزي فهي كالتالي:

- البؤس هنا مسئولية، أنت ملتزم بأن تصبح بائسًا كالجميع.. وإذا ابتهجت بشيء ما أو حققت إنجازًا ستذيّله لنفسك دائمًا بالشعور بالذنب، أو بالخوف من الإعلان عنه "عشان هيتقر عليك وش!".

- ما زلنا نمتلك الأحلام برغم كل شيء، نكتبها/ نرسمها/ نشاهدها أفلاماً/ نحكيها على المقاهي، حلمت صديقة لي بأن السماء تمطر أرغفة خبز، حلمت أخرى بامتلاك بيت في سانت كاترين.. وبرغم صعوبة ذلك استطاعت الحصول على الأرض وبناء البيت ويتم تجليده الآن، حلمت أنا بأختام على جواز سفري برغم أني لا أملك أموالاً للسفر، حصلت على ختم واحد، وسأحصل على الثاني في خلال شهرين..

الحقيقة أننا سنظل نحلم برغم كل شيء.

- لا أحد يمكنه أن يتكهّن بما سيحدث، لا أحد يمتلك مفتاح الحقيقة أو الأفضلية، كلنا نسير في الدوامة ونحاول خطف قُبلة من كل شيء جميل وشكرًا على كده.. «جون لينون» مثلاً لم يكن يعلم وهو يحاول كتابة أغانيه وعزفها أن اسمه سيُطلق على بقعة في عطارد تكريمًا له.. أينعم.. قرر الاتحاد الفلكي الدولي المسؤول عن إطلاق الأسماء على الكواكب والأقمار وغيرها من الأجرام السماوية أن يفعل ذلك، جون لينون لم يكن يعلم أنه سيوجد في يوم ما مثل هذا الاتحاد أصلاً! كان يغني والسلام.. نحن جميعًا نغني والسلام، وهناك احتمال ضئيل أن يُطلق اسم أي منا على دمية في يد طفل ولا حاجة!

- لن نتمكن من الالتزام بالكراهية للنهاية؛ في إحدى الشركات يتجادل الزميل الإخوان مع الزميل اللي مالوش دعوة بخصوص "البوزو" الذي اشتراه دون أن يسأل إذا كان حد تاني عايز بوزو.. الزميلة الليبرالية تخرج كيسًا من البوزو من أحد أدراجها وتعطيه للزميل الإخوان وتقول له: اشتريته ولسه مكلتهوش، يفرح الزميل الإخوان بالبوزو ويشكر الزميلة الليبرالية بامتنان، وتشعر الزميلة الليبرالية أن هذا شيء لطيف وغير متوقع، يمر زميل مجهول الانتماء بعلبة شيكولاته ويتقافز وجهه قائلاً: أنا جبت بنوتة.. جبت بنوتة! ويعطي الجميع شيكولاتة احتفالاً بالمولود، ولا يفكر الجميع سوى بوجه طفلة الزميل مجهول الانتماء ومدى ضآلتها ونضارتها.

لن نتمكن من الالتزام بالكراهية حتى النهاية.

وختامًا:

نحن نعيش أبهى عصور السكيزوفرينيا يا عزيزي، أحيانًا أعتقد أننا جميعًا أشخاص في رواية كابوسية أو في سيزون لأحد مسلسلات السيت كوم، حيث يجب أن تحدث أغرب الانقلابات الدرامية فجأة، أمنيتي للعام الجديد هي أن تقل حدة الدرامية في الأحداث والنبي يارب.. يعني سأتقبل والله أي "شيفت" في إطار مبررات منطقية، إنما كده كتير!

كنت تقول في سيرتك الذاتية إنك عندما تتورط تفكر: "لو كانت هذه قصة أكتبها، ماذا كنت سأفعل؟"، حسنًا أنا مثلاً كنت سأصيب القارة بأكملها بوباء يساعد على فقدان ذاكرة الألم، الألم فقط.. كلنا سنستيقظ من النوم في اليوم التالي غير مدركين لكل ما مر بنا من أوجاع، لا مرض ولا فقر ولا فقد ولا قهر، ذاكرة أزيح عنها التراب وهش عنها الذباب.. سيكون هذا كافيًا جدًا..

كل سنة وانت طيب عزيزي «فيلليني»..
صديقتك.

لمراجعة حدوتة عطارد:

التعليقات