رسائل مريم - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 5:59 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رسائل مريم

نشر فى : الخميس 3 يناير 2019 - 11:20 م | آخر تحديث : الخميس 3 يناير 2019 - 11:20 م

لم تصدق أيٌ من صديقاتها أنها مازالت تكتب رسائل إلى حبيبها المجهول في القرن الحادي والعشرين، رسائل ورقية يا مريم؟ نعم رسائل ورقية، وبخط اليد لا بالكيبورد؟ نعم بخط اليد لا بالكيبورد، ومن داخل القاهرة إلى داخل القاهرة ؟ نعم نعم نعم . كانت تمشي معهم بلا هدف ثم فجأة تتوقف لتُسقِط في صندوق البريد خطابا جديدا لحبيبها، كان ذلك يتكرر كل ثلاثة أسابيع أو كل شهر حسب التساهيل فما أن تفعل حتى تشعر أنها صارت هي نفسها مطوية تتسرب إلى داخل الصندوق لتأتنس بخطابات أرسلها من لا تعرفهم إلى من لا تعرفهم، خطابات لا تحمل كلها أشواقا وسلامات بالضرورة لكن واحدا من هذا الصنف يكفي ليطمئنها على أنها ليست وحدها.
***

في خزانة مريم كومة من الرسائل التي تبادلها جدها وجدتها قبل سنين بلا عدد مربوطة بشريط أحمر ساتان، ساح مداد الحروف وتداخلت السطور وتماوجت لكن مريم ظلت قادرة على أن تُمّيز كلمتي حبيبي وحبيبتي ثلاث أو أربع مرات في الخطاب الواحد. عندما حان وقت توزيع تركة الأجداد لم يلتفت أحد إلى الرسائل، من ذا الذي يطالب أصلا بحقه في خطابات قديمة؟ وحدها أمها طلبتها، ولعل أمها حتى قايضت إخوتها وساومتهم فبادلت الرسائل بخاتم ذهبي أو قرط، ومن الأم انتقلت الرسائل إلى مريم. لو أن هناك تناسخا للأرواح ما وجدت روح الجدة جسدا تحل به أفضل من جسد الحفيدة فهي متيمة بهذا اللون من الحب الرومانسي الذي يتعامل مع المشاعر في طزاجتها وانسيابها وبدائيتها أيضا، حب أداته القلم وساحته الورق لا آيفون ولا آيباد ولا يحزنون فالحروف الإلكترونية لا تجيد توصيل المشاعر ولا تؤتمن عليها، أبدا لا تؤتمن.
***

ما من مرة خلت فيها إلى أمها إلا وكانت تلّح عليها كي تروي لها حكاية الجد والجدة، تتكوم في حضنها كقطة وديعة وتنظر لها بشغف فتروح الأم تبوح بالتفاصيل نقطة نقطة كأني بها تخشى لو تَفرَغ قارورة العشق قبل أن ترتوي ابنتها منها تماما. قالت لها إن جدتها كانت قوية، تعلقت بالجد عندما كان يتردد على أخيها للمذاكرة، لم يكن الجد في حينه هو الأغنى ولا الأوجه وكان هذا المبرر كافيا لرفضه فرُفض، لكنها تمسكت به .. ووسط الخناق المحكم والحصار المضروب أخذت تتسرب الرسائل المُهَرَبة بينهما، ثم بمرور الزمن سقطت القيود وانتصرت الرسائل. مدهش أن تتحلى هذه الجدة بشجاعة البوح التي لم تتوفر لمي زيادة في حبها لجبران خليل جبران، احتاجت مي وقتا طويلا قبل أن تتوقف عن "محايدة" كلمة الحب كما اعترفت لاحقا أما جدتها فيبدو أنها من أول خطاب دخلت إلى العمق، هل لهذا دخل بتفاوت القدرة على الكتمان وترويض المشاعر بين امرأتين عاشتا في الزمن نفسه تقريبا؟ من أدراها، حدثتها أمها عن جدتها لكن كيف لها أن تغوص في سريرة مي؟ هكذا صنعت الحكايات المتواترة تحت جناح الأم عالما أحبته مريم كثيرا، ودت لو أنها كانت بلحمها وشحمها جزءا من هذا العالم لكنها لم تكن فقررت أن تعيد صناعته، قال نزار: الحب في الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه.
***
بدا إسماعيل صديق الجامعة شابا مختلفا عن الجميع، ليس أول دفعته ولا هو حريص على هذا اللون من الأولوية، لكنه يتمدد في كل الفضاءات التي تتقاطع مع حدود العالم المسحور الذي تبحث مريم عن منفذ للدخول إليه، موجود في مسابقات الشعر والقصة القصيرة والتمثيل، وهو صديق وصديق لأصدقاء ولأصدقاء الأصدقاء كأنه القاسم المشترك الأعظم في كل العلاقات الإنسانية داخل أسوار الجامعة. هل يصبح إسماعيل هدفا لرسائل من مريم كتلك الرسائل التي كانت ترسلها جدتها لجدها ومي زيادة لجبران خليل جبران؟ هذا أمر وارد. على كثرة علاقاته وتشعبها لم تكن له حسابات على وسائل التواصل، مممم لابد له إذن من مساحة يمارس فيها البوح والفضفضة ولعل هذه المساحة تكون الرسائل، هكذا صورت مريم الأمر لنفسها وسُرّت كثيرا بما صورت. بالصدفة رأته يدافع من قلبه عن المرأة في إحدى ندوات الجامعة، الله الله وكمان تقدمي! ليس في الإمكان أروع من الكائن فعلا، هل وقعت مريم في حب إسماعيل؟ حدث هذا.
***
صبيحة أحد الأيام وبينما هي تسير مع صاحباتها انعطفت صوب صندوق البريد وأسقطت فيه خطابها الأول لإسماعيل ممهورا بتوقيع زميلتك مريم، ويحك أيتها الساذجة! توجد ثلاث فتيات غيرك في الدفعة تحملن الاسم نفسه فمن أدراك أنه سيميزك أنتِ؟ لا لا سيعرف إسماعيل، مؤكد سيعرف، إن لم يدله قلبه فسوف يهتدي بفراسته. بعد الخطاب الخامس اعترضها إسماعيل وسلمها خطابا، أمطرت السماء عليها دون توقف شلالا من زهور الياسمين حتى بدت في وسطها كرأس الدبوس، ها قد عرفها وميزها وأحس بها فهل تصرخ؟ هل تقفز؟ هل تطير؟ اعترف بهاء طاهر في إحدى قصصه إنه لم يعرف أن الطواويس تطير لكنه وجدها تطير فلم لا تخبره بسر جديد هو أن البشر أيضا يطيرون.... أحيانا. في أول رد عليها ماذا قال إسماعيل؟ قال: كأنك تغمسين أظافرك في عشرات من زجاجات المانيكور الملون فإذا بالسطور تتحول إلى لوحة من الفن التشكيلي البديع. لم تكن تحب طلاء الأظافر من قبل ولا كان من أولوياتها، لكن من ساعة أن قال لها إسماعيل ما قال وأظافرها دائما مطلية، هكذا يريد إسماعيل وهكذا يراها أجمل.
***
مهلا .. مهلا من هذا الذي يريد ويرى بل من هذا الذي كتب لها أصلا؟ من حيث إنها كتبت لإسماعيل فهذا حدث، أما من حيث إنه رد عليها فهذا مشكوك فيه، الأرجح أن روح الجدة حلت في مريم كما كان متوقعا أما روح الجد نفسه فلم تتلبس إسماعيل أبدا. على أي حال ظلت مريم تكتب لحبيبها.. تكتب وتكتب وتعتب على نزار قباني لأنه لم يخبرنا بماذا نفعل بالحب من طرف واحد إن نحن بادرنا واخترعناه.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات