في رحاب عمّار الشريعي - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 5:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في رحاب عمّار الشريعي

نشر فى : الخميس 4 مايو 2023 - 7:30 م | آخر تحديث : الخميس 4 مايو 2023 - 7:30 م
الساعة الآن الثالثة ظهرًا موعدنا مع إحدى روائع الست على محطة الأغاني 105.8‏، أُسلم أذنّي بل أُسلم كياني طائعة مختارة لذبذبات الأثير، وأخبئ تحت مسامي واحدة من تأوهات السمّيعة الذين إن فاض بهم إعجابهم هللوّا: عَظَمة على عظَمَة على عظَمَة. انطلقَت ثومة تشدو برائعة رياض السنباطي وعبد المنعم السباعي "أروح لمين؟"، ومع أول مقطع في الأغنية "أروح لمين واقول يا مين ينصفني منك"، مرّت ذكرى عابرة بخيالي فقطَعَت انسجامي وانتزَعَت ابتسامتي انتزاعًا. ليس في هذه الأغنية ما يدعو للابتسام.. أبدًا لا يوجد، بالعكس فإن الحبيبة تشكو غياب حبيبها بأكثر الكلمات حزنًا ولوعةً، فما سبب الابتسام إذن؟ تذكّرت إحدى حلقات برنامج عمّار الشريعي "غوّاص في بحر النغم" وكنتُ من المداومين على متابعته لأنه يقدّم لنا ثقافة موسيقية من الطراز الأول. وفي هذه الحلقة كان يتكلّم الشريعي عن ضرورة أن تكون مخارج ألفاظ المطرب سليمة، وراح يؤكّد على أن تلك السلامة لا تنفصل أبدًا عن حلاوة الصوت، وأن هذا مكمّل لذاك. وحكَى الشريعي قصة طريفة مع إحدى المتقدّمات لمسابقة للأصوات الشابة كان هو يقوم بالتحكيم فيها. اختارت الفتاة الأغنية البديعة "أروح لمين؟" وبدأت تشدو بالفعل، لكنها ما أن أتمّت أول مقطع من الأغنية حتى أوقفها الشريعي غاضبًا لأنها "ما تنفعش"، فلقد تغنّت الفتاة بالمقطع هكذا "أروح لمين واقول يا مين ينسفني منك"! وشتّان هو الفرق بين ينصفني وينسفني! وعن بُعد وصلَتنا نحن المستمعين لحلقة البرنامج قهقهة الشريعي المحببة فقهقهَت معه قلوبنا.
• • •
مسألة القدرة على التأثير في الآخرين هذه موهبة ربّانية، وبطبيعة الحال هناك أناس يشتغلون على أنفسهم من أجل إحداث هذا الأثر، لكن الفطرة في النهاية تكسب البريمو. عمّار الشريعي من هذا النوع من المبدعين القادرين على أن يحرّكوا مشاعرنا من موجة لموجة كما لو كانوا يحرّكون مؤشّر الراديو. إنه معجون بالفن، خفيف الظّل جدًا، قوّي الملاحظة بشكل مذهل، وجميعها خصال تفرش له طريق التأثير بالورد. اختبَرت قوة الملاحظة هذه في المرة الوحيدة التي قابلتُ فيها عمّار الشريعي في حياتي. كان ذلك في أعقاب ثورة يناير مباشرة، وكان هناك زخم ونشاط وحيوية كسروا برودة فصل الشتاء وحوّلوه إلى قطعة جمر. خطرَ للمسؤولين في جريدة الشروق تكوين لجنة من الحكماء للتفكير في خريطة طريق للمستقبل بعد خروج مبارك من المشهد السياسي، ودعا رئيس مجلس إدارة الشروق إبراهيم المعلّم أعضاء اللجنة للاجتماع في مقرّ الجريدة. ضمّت اللجنة خليطًا كان أجمل ما فيه هو تنوعه: عمرو موسى وأحمد كمال أبو المجد وجميل مطر وسلامة أحمد سلامة وميرڤت التلاوي ونجيب ساويرس وعمرو حمزاوي ومعتّز عبد الفتاح ومصطفى كامل وهالة سعودي وإبراهيم عوض وعمّار الشريعي وأنا، وهناك أسماء أخرى كثيرة بارزة أحتاج للتركيز حتى أستعيدها لكن هذا غير مطلوب في المقال. المهم أنني تكلّمت أثناء اللقاء لدقائق معدودات بعد أن عرّفت نفسي في جملة واحدة، وانتهى الأمر. احتجتُ بعد ذلك بأسابيع للتواصل مع الشريعي فطلبته تليفونيًا وقدّرت بالتأكيد أنه لن يذكرني، لكنني ما أن قلت له: يا أستاذ عمّار أنا فلانة التي قابلَتك في لقاء جريدة الشروق عندما كنّا… حتى قاطعني بالقول: فاكرك يا دكتورة. أذهلتني تلك القدرة العجيبة على اختزان الأصوات وتذكّر التفاصيل، بينما أنا واحدة من الناس الذين يشكون من ضعف الذاكرة في حفظ الأسماء. وبعد أن زالت دهشتي انتابني شعور داخلي بالرضاء عن النفس لأن عمّار الشريعي تذكّرني، وتلك من أهم مزايا لجنة الحكماء بالنسبة لي شخصيًا فلقد كانت اللجنة قصيرة العمر جدًا واقتصر نشاطها على إصدار عدد قليل من البيانات حول المسار السياسي خلال المرحلة الانتقالية.
• • •
جرّب عمّار الشريعي التأليف الموسيقي لكل الأعمال الفنية تقريبًا. تربّى أولادي على أغاني عفاف راضي التي لحنّها الشريعي وواكبَتهم في مختلف مراحل طفولتهم. وهكذا غافَلتُ ابني البكري بأغنية "همّ النّم" وأنا أدفع له بملعقة من شوربة الخضار الممّلة التي لم يحبها أبدًا مثله في ذلك مثل معظم الأطفال الذين أعرفهم، واستقبَلتُ بين يدّي أول سِنّة تبدّلها ابنتي على وقع لحن "يا شمس يا شموسة.. خدّي سِنّة الننوسة واديها سِنّة جديدة تاكل بيها البسبوسة"، وصنعنا هي وأنا ثروة عظيمة من الأسنان اللبنية حتى إذا انتقلنا من بيت لبيت تبددّت ثروتنا أثناء العِزال. وعندما قرأتُ في حينه عن استهجان المتشدّدين أغنية "يا شمس يا شموسة" لأنها تطلب من الشمس المخلوقة أن تقوم بما يقوم به الخالق تعجّبت من قدرة البعض على استخلاص القُبح من أكثر الأشياء جمالًا. وفي مرحلة تالية كانت أغنيات المطربة لطيفة هي وَنَسِي في رحلاتي المكوكية لمدارس الأولاد ذهابًا وعودة، ولطيفة بالذات غنّت نحو ثلث الأغاني التي قام بتلحينها عمّار الشريعي. ثم إنني ظللتُ كمشاهِدة على الخط في حالة ترقّب تام وأنا أنتظر أغنية الختام البديعة للثنائي سيد حجاب وعمّار الشريعي في فيلم "كتيبة الإعدام" والتي تقول عن مصر "حبيبتي من ضفائرها طلّ القمر.. وبين شفايفها ندى الورد بات"، فلا تتركنا هذه الأغنية الشجيّة إلا وقد أسالت دموعنا ولو سمعناها بدلًا من المرة ألف مرة. أما علاقة الشريعي بتترات المسلسلات فحكايتها حكاية، كانت مسلسلات الثمانينيات والتسعينيات وربما قبل ذلك بقليل في قمّة تألقها تأليفًا وإخراجًا وتمثيلًا، وهذا مناخ مثالي جدًا لاستكمال مُختَلَف جوانب الإبداع الأخرى. لكن على كثرة المسلسلات الكبيرة التي ارتبطَت باسم الشريعي: أرابيسك ورأفت الهجّان وزيزنيا وحديث الصباح والمساء… إلخ توقَفتُ عند تلك المصادفة غير المقصودة بالتأكيد التي قادت الشريعي لتلحين تتر مسلسل الأيام عن قصة عميد الأدب العربي طه حسين. في ضربة واحدة جمع هذا العمل بين اثنين من العباقرة أحدهما في مجال الأدب والآخر في مجال الموسيقى، وكلاهما حُرم من نور البصر لكنه كان قادرًا على استخلاص النور من الظلام "من عتمة الليل النهار راجع.. ومهما طال الليل ييجي النهار، ومهما تكون فيه عتمة ومواجع.. العتمة سور ييجي النهار تنهار وضهرنا ينقام". تخيّلت الشريعي وهو يستمع لكلمات سيد حجاب ويتفاعل معها ويدندن بها وهو قابضٌ على عوده، وتذكّرت قول محمد البغدادي شاعر العراق عن الشوق الذي لا يعرفه إلا مَن يكابده، ويمكننا هنا بكل سهولة تغيير كلمة الشوق ووضع مكانها أي شعور آخر، وأظن أن كلمة الإصرار هي المناسبة، فعمّار الشريعي مثله مثل طه حسين كان يعرف الإصرار ويكابد في سبيله .
• • •
قبل أيام استضاف برنامج منى الشاذلي أسرة عمّار الشريعي: زوجته الإعلامية ميرڤت القفّاص وابنه المهندس مراد في إحياء لذكرى ميلاده الخامسة والسبعين، وعرَض البرنامج ڤيديو قديمًا لاحتفال الأبوين بسبوع الابن. في الڤيديو رأينا الشريعي وهو يسند على كتف زوجته التي تحتضن الطفل الوليد ويغنّي مع الجميع بلطفٍ لا مزيد عليه: حلقَاتَك برْجالاتَك حلقة نونو في وداناتك فأخذنا إليه شوق كبير وافتقدنا السباحة معه في بحر النغم.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات