على رصيف البنك - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

على رصيف البنك

نشر فى : الخميس 4 يونيو 2020 - 9:05 م | آخر تحديث : الخميس 4 يونيو 2020 - 9:05 م

صباح اليوم يبدو مختلفاً ففيه خروج لأداء معاملة ضرورية في البنك وخروجات هذه الأيام باتت نادرة بالنسبة لفئة من المصريين تأخذ الحظر بجدية. منذ أن بدأتُ أتأهب للنزول وذلك المقطع الذي يقول "حتى فساتيني التي أهملتها فرِحَت به.. رقصَت على قدميه" في رائعة نزار قباني "أيظن"- ذلك المقطع يطاردني ويزغزغني بلطف. أعتذر مقدماً لنزار قباني لأني جعلت فساتيني ترقص لمجرد الذهاب لخدمة العملاء في البنك أما فساتين "أيظن" فكانت ترقص في مشهد شديد الرومانسية بعد أن صفا الجو بين الحبيبين. لا بأس فهذا هو حُكم القَوِي. أكملتُ استعداداتي ووقفتُ أُعدّل من وضع الكمامة فوق أنفي، تباً لنظارتي التي تتزحلق فوق الكمامة وتُغبشها أنفاسي بين حين وآخر وكأن علىّ أن أختار بين العدوى وضعف الرؤية، وفي الاختيار بين النظارة والكمامة فالاختيار محسوم للكمامة. ثم أن هذا النوع بالذات من الكمامات حصلت عليه بشق النفس وفي الخباثة، وعندما سألتني إحدى السيدات ذات مرة: منين كمامتك يا مدام؟ اندهشتُ جداً، وذلك أن آخر ما كنت أتصور أن يكون مثار إعجاب هو الكمامة!! يبدو أن الكمامة انضمت مؤخرا إلى أدوات الفرز الاجتماعي والتعبير الطبقي، قل لي أي كمامة ترتدي أقول لك من أنت.
***
وصلتُ إلي باب البنك قبل نصف ساعة من موعد العمل ورغم ذلك كنت العميلة رقم ٢٠ التي تسجل اسمها في ورقة الحضور، لا بأس فهناك عدد معقول من المقاعد في الهواء الطلق وهناك درجة مناسبة من التباعد الاجتماعي. ومن جانبي فقد عملتُ حسابي واصطحبتُ معي مجموعة قصصية كنت على وشك عرضها هنا في باب انطباعات بجريدة الشروق لكن بعد أحداث اليوم غيّرتُ رأيي وقررتُ أن أشركَ معي القارئ في ثلاثة مشاهد لا تخلو من الطرافة. ثلاثة مشاهد امتصت القلق الساكن فينا ليل نهار والذي يجعل الواحد منا يركبه "ستين عفريت" كلما مر به شخص غريب، وأحياناً حتى قريب.

المشهد الأول
سيدة في السبعين من عمرها- هي قالت ذلك- ترتدي جلباباً بنياً وخماراً أبيض وتتدلي من ذراعها حقيبة من الحقائب التي يمسك بها عادة الحجاج والمعتمرون مكتوب عليها "جمعية.... الخيرية". من أول نظرة فهمتُ أن هذه السيدة سيكون لها دور كبير في حكاية البنك، فهي من ذلك النوع من الناس المولع بالقيادة، وقد حرصَت هي على أن تُعْلِمنا بمقوماتها القيادية المتاحة: السن ومن ثَم الخبرة الطويلة (٧٠ عاماً كما سبق القول)، الدرجة الوظيفية: وكيلة وزارة على المعاش، العمل العام: مديرة جمعية خيرية أسسها لها المرحوم والدها. صح توقعي وبدأت هذه السيدة تتصدر الموقف، ففي مشهد أول اعترضت السيدة على إحدى العميلات لأن صوتها كان مرتفعاً بينما هي تتناقش مع حارس البنك حول الدور. قالت لها بتلقائية عظيمة: يا مدام صوتك عال بيوترني.. والتوتر بيضعف المناعة واحنا داخلين على مرحلة انتشار الوباء. ردت عليها المدام باستغراب: أنا لم أوجه إليكِ الحديث أصلاً. كلمة من هنا وكلمة من هناك اشتعل الموقف وبدأت حرب الكمامات.. كمامات في مواجهة كمامات.. وعيون تشاكس عيوناً ووقع استقطاب. تدَخّل أولاد الحلال بعد قليل وساد الهدوء، أما أنا فرحتُ أستعيدُ بتمزج قول السيدة السبعينية: التوتر بيضعف المناعة! غيّرت فينا كورونا وسوف تُغيّر أكثر، وكله كوم والعلاقة بين الصوت المرتفع وضعف المناعة كوم ثان.

المشهد الثاني
شابتان في أوائل العشرينيات تظهران فجأة على مسرح الأحداث وتتخطيان الدور بصحبة أحد حراس البنك يقودهما إلى الداخل. قبل أن تتجمع نذر احتجاج الناس المنتظرة دورها في أمان الله هبّت السيدة إياها من جلستها وصاحت بصوت مرتفع من ذلك النوع الذي يضعف المناعة: ما هذه الفوضى؟ تردّدَت أصداء كلمة فوضى على ألسنة العملاء: فوضى فوووووضى فوضى. خرج لنا أحد موظفي البنك: يا جماعة هذه ابنة أخت مدير البنك! ردت السيدة إياها: ابنة أخت مدير البنك تقابل خالها في بيت والدتها! هههههههه أخذت الكمامات تتثنى فوق أفواه الحضور مع توالي القهقهة، وأفرج البعض عن ملامحه فنحّي كمامته وأرانا ضحكته وكانت حلوة. استأنفت السيدة نفسها: وبعدين ابنة أخت المدير لم تكن وحدها.. كانت معها شابة أخرى. رد الموظف: صاحبتها يا افندم!!!. مصمصَت السيدة شفتيها وقالت: صلاة النبي أحسن!

المشهد الثالث
مرت ساعة والتعامل بطئ جداً لأسباب مفهومة، البنك يعمل بنصف طاقته وربما أقل. التفتت السيدة إياها لرجل في مثل عمرها كان يقف قريباً منها: ما يصحش كده يا أستاذ تعليمات الأمان الصحي بتقول ٥ تمتار!! ظهرت على وجه الرجل معالم الارتباك، فجملة السيدة كانت تحمل معان كثيرة منها التحرش، وقبل أن يستوعب الموقف بادرته هي بالقول: الناس في سنك وسني لا يتحملوا الكورونا، أنا مريضة قلب وأنت كمان مش ناقص! روح هناك واجلس مكان هذا الشاب فأنت أولى منه بالمقعد. تنفّس الرجل الصعداء بعد أن جرت تبرئته علناً من تهمة التحرش، وللعجب رأيناه يمشي طائعًا في اتجاه الشاب الجالس على المقعد، وللعجب أيضاً في هذا الزمن فإن الشاب المهذب أخلى له مقعده. ممتازة هذه السيدة والله، إنها تتحكم ببراعة في مسرح الأحداث بمشاهده الأول والثاني والثالث، وتمسك في يديها بكل الخيوط باحترافية عالية، الاقتراب منها يحرق لكن وجودها مفيد.
***
أخيراً نادى الحارس على دفعة جديدة من الأسماء كان من بينها اسم نجاة علي، نجااااااااة علي. أحكمت السيدة السبعينية تعليق الحقيبة في ذراعها وهي ترد: أيوه هنا. ابتلعها الباب الدوار وصار الانتظار مملاً في غيابها.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات